Site icon IMLebanon

قوة لبنان في وحدته لا في ضعفه ولا في قوته

كل فلسفة الشيخ بيار الجميل، مؤسِّس حزب الكتائب، كانت قائمة على قاعدة إذا كان الضعف يجنِّب لبنان الحروب والموت والدمار والتهجير، فهو أفضل حتما من القوة التي تسلبه سيادته وتُسقط دولته وتدخله في الفوضى، ولبنان “الضعيف” قبل العام 1975، هو أفضل بآلاف المرات من لبنان “القوي” مع أبو عمار وأبو باسل وأبو هادي.

لو اعتمدت فلسفة الشيخ بيار لكان حافظ لبنان على استقراره وازدهاره وتفوقه على دول المنطقة كلها، وأثبتت الأحداث انه كان على حقّ، وان أكبر خطيئة ارتكبت بحق لبنان واللبنانيين كانت بفتح حدوده وتحويل أرضه إلى ساحة، وقد تكون الإشكالية الوحيدة في هذه الفلسفة هي مصطلح الضعف الذي لا يلقى قبولا ولا استحسانا من منطلق ان أحدا لا يستسيغ وصفه بالضعيف.

 

وإشكالية الضعف، بهذا المعنى، هي شكلية، ولكن بالترجمة العملية كانت أفضل استراتيجية لحماية لبنان واللبنانيين، فيما من يدعّي القوة دمّر لبنان، وقوته هي مجرّد إدعاء وهمي هدفه الوحيد ممارسة الغلبة في الداخل، حيث ان القوة المقصودة ليس في مواجهة إسرائيل، إنما في مواجهة اللبنانيين.

 

والحديث عن القوة يصحّ مثلا إبان الحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي، والمقصود ان كل دولة كانت تتجنّب الأخرى بسبب ميزان القوى الذي يؤدي، في حال نشوب الحرب، إلى تدمير الولايات والاتحادات، وهذا ما أبعد الحرب بينهما ووفّر الاستقرار لشعوبهما قبل ان يسقط الاتحاد السوفياتي بفعل عجزه عن اللحاق بركب التطور والحداثة.

 

وما كان يصحّ بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي لا يصحّ إطلاقا بين إسرائيل و”حزب الله”، لأنّ المحور الأول جنّب شعوبه الحرب طوال فترة الحرب الباردة، فيما المحور الثاني في حروب مستمرة يدفع الشعب اللبناني ثمنها موتا وتهجيرا وتدميرا وفقرا ويقبع في فوضى ما بعدها فوضى، وهذا يعني ان القوة هي إدعاء في غير محله.

 

وإذا كانت فلسفة الضعف تجنيب لبنان الحروب، فإنه من الأولى ان تكون فلسفة القوة منع الحروب وتجنبها، وفي الوقت الذي أمنّت الفلسفة الأولى الاستقرار للبنان، فإن الفلسفة الثانية أدخلته في عدم استقرار عسكري وأمني وسياسي ومالي.

 

وقد أسقطت الحرب التي أعلنها “حزب الله” في 8 تشرين الأول 2023 كل إدعاءاته بالقوة التي وصلت إلى حدّ تهديد أمينه العام قبل هذه الحرب بان قوته وصلت إلى مستوى منع الخرق الجوي الإسرائيلي، فإذا بالأخيرة تستبيح لبنان طولا وعرضا، وتستهدف الحزب في عمق مواقعه، وتغتال كوادره، ويتأنى في الردود عليها تجنبا لاستدراجه لحرب واسعة تحوِّل مصيره كمصير “حماس”.

 

ففلسفة القوة التي يدعيها “حزب الله” ليس فقط لم توفِّر الحماية للبنان واللبنانيين، إنما أدّت منذ العام تموز 2006 أقلّه إلى تدمير البلد مرارا وتكرارا، وهذا يعني انها قوة للمزايدة شكلا، ولكنها في جوهرها وعمقها ورقة استخدامية هدفها الرئيس السيطرة على لبنان في سياق المشروع التوسعي الإيراني شأنها شأن الميليشيات الإيرانية الأخرى التي كل هدفها السيطرة على اليمن والعراق وسوريا والورقة الفلسطينية، وبالتالي هذا المشروع المكشوف أصلا تعرى في المرحلة الأخيرة تماما.

 

والمضحك ان من يدعّي القوة يصوِّر نفسه وكأنه قوة نووية قادرة على فرض توازن ردع تاريخي، فيما راعيته الإقليمية التي أصبحت على وشك امتلاك النووي لا تجرؤ على الدخول في مواجهة مع إسرائيل، وتحسب خطواتها وردوها متلطيةً بما يسمى الصبر الاستراتيجي، وتواجه بواسطة أذرعها، وأظهرت إدعاءاتها كلها بإزالة إسرائيل انها للاستثمار من أجل السيطرة على الدول العربية.

 

وإذا كانت فلسفة الضعف التي حمت لبنان مرفوضة شكلا وتسميةً، فإن فلسفة القوة دمرّت لبنان، والمطلوب البحث عن فلسفة جديدة توفِّر الحماية والأمان للبنان، وهذه الفلسفة تتجسّد في ان قوة لبنان في وحدته، أي في وحدة شعبه حول القضايا الرئيسية، وهذه وحدها القادرة على حماية لبنان، لأنه لم يسقط البلد بسبب الضعف ولا القوة، إنما سقط بسبب انقسامه بين مشروعين سياسيين.

 

فلم يسقط لبنان بسبب إسرائيل ووجودها على حدوده والدليل انه كان سويسرا الشرق بين عامي 1943 و 1975، إنما سقط عندما تحولّت أرضه إلى منطلق لمشاريع إقليمية قسمّت اللبنانيين وعطلّت الدولة، وعندما كان هناك وحدة موقف حول الالتزام باتفاقية الهدنة والدستور والدولة كان يعيش الشعب اللبناني بنعيم على رغم وجود إسرائيل على حدوده، ولكن النعيم تحوّل إلى جحيم عندما قرّرت فئة من اللبنانيين تغطية تحويل لبنان إلى ساحة.

 

فقوة لبنان إذا في اتفاق شعبه او شعوبه على القضايا الرئيسية المتصلة بدور الدولة الخارجي والداخلي، وعندما كان هذا الاتفاق قائما نجح الشعب اللبناني بان يُدهش العالم في تقديمه تجربة نموذجية إن على مستوى العيش معا، أو على مستوى حداثة هذا البلد وتطوره خلافا لدول المنطقة كلها، فكان غربيا في تطوره وشرقيا في تعايش مجموعاته وتآلفها.

 

ولم تَسقُط الدولة اللبنانية من الخارج، اي بفعل حرب خارجية مع إسرائيل او مع غيرها، إنما سقطت من الداخل بين من يريد فتح الحدود اللبنانية أمام الكفاح الفلسطيني، وبين من يرفض فتح هذه الحدود، وما زال الخلاف نفسه مستمرا مع اختلاف العنصر الأول الذي انتقل من الكفاح الفلسطيني إلى الكفاح الإيراني، وهذا الخلاف أدى إلى تعطيل عمل الدولة وأدخل لبنان في الفوضى.

 

وما تقدّم يعني ان لبنان لم يسقط بسبب ضعفه او قوته او تهديد سيادته من دولة خارجية، إنما سقط بفعل انقسام شعبه، اي انه سقط من الداخل، وقيامته تكون من الداخل من خلال الاتفاق على مفاهيم وطنية مشتركة، وهذه المفاهيم هي كونية وعالمية وعنوانها الدولة الأمة او الدولة الوطنية، خصوصا ان سلاح “حزب الله” هو موضع انقسام كبير وعميق، ومن يمنع قيام الدولة الوطنية اليوم هو “حزب الله” وليس إسرائيل ولا غيرها.

 

وطالما ان قوة لبنان ليست في ضعفه ولا في قوته بل في وحدة شعبه حول معنى لبنان ودوره في السياسات الكبرى الخارجية والداخلية، يبقى السؤال: ماذا لو لم تتأمّن هذه الوحدة على غرار ما هو حاصل منذ أكثر من نصف قرن؟ والإجابة يجب ان تكون واضحة وحاسمة لجهة ضرورة الانتقال، بكل بساطة، من انتظار حلول “الروح القدس” على جميع الفئات اللبنانية، مع الأخذ في الاعتبار ان هذا الانتظار طال طويلا، إلى إعادة النظر بتركيبة البلد السياسية، لأنه إذا كان شرط قوة لبنان وحدته، فإن عدم تحقُّق هذه الوحدة يُبقي لبنان في الفوضى، والعيش الدائم وسط الفوض غير مقبول بتاتا، الأمر الذي يتطلّب الفرز على أسس جديدة بين من يريد منطق الميليشيا والكفاح، وبين من يريد منطق الدولة والعصرنة، فتعيش عندذاك كل فئة خياراتها على أرضها من دون ان تحاول إخضاع الفئة الأخرى لخياراتها.