يؤخذ على المرجعيات السياسية والحزبية في لبنان، أنها لا تزال تعتمد نظرية الحق الإلهي في السلطة والتوريث، على غرار سلالات الملوك في القرون الوسطى، فيما الملكية المعاصرة قد طوَّرتْ نفسها بما يوفّق بين الديمقراطية والتاج.
ملكة إنكلترا ورثَتْ مملكة دستورية، الملك فيها يملك والشعب هو الذي يحكم، وملك إسبانيا الحالي فيليبي السادس يجرّد شقيقته من لقب «الدوقة» وحق التوريث بسبب التهرّب الضريبي.
وحده العالم الثالث، والعالم العربي تحديداً يتمرّد على العصرنة، ويأبى الا أن يكون ملكياً أكثر من الملوك «المتألِّهين»، وقد أوقعته نظرية الحق الإلهي وشهوة التوريث في حمامات من الدم تدَحرجَتْ به الى عصور ما قبل التاريخ.
على أن التوريث، وإن كان كلمة تحمل حساسية لفظية، فهو لا يشكل عاهة في تداول السلطة، إلّا عندما يصبح منهجية ملكية يقتصر حق الخلافة فيها على فئة الدم الوراثي وإخراج القيد العائلي.
الشيخ سامي الجميّل، إنتفض على الحصرية الإِرثية بشخصية أثبتت وجودها الخاص وقدرتها على التفوّق، وهو الذي تميّز بحضور قيادي برّاق، وجاذبية دينامية، وإطلالة قريبة من القلب ومن هواجس الشعب. الرئيس الحزبي إن لم يتمتّع بمزايا قيادية فقد تخذله الجماهير… والحزب الجماهيري إن لم يكن الشخص الرئيس فيه هو البرنامج، فقد تخذله العقيدة.
الكتائب إنطلقت وسط أحزاب عقائدية فلسفية، فقامت عقيدتها على مناقبية أخلاقية وانضباطية مجلّلة بشخصية الرئيس المؤسس، فانتصرت على فلسفة العقائد بما يعرف بفلسفة السلوك.
هذه السلوكية القيادية تحلّقت حول شخصية الشيخ سامي فبرَزَ بها، ولم يكن في حاجة الى القسيس الكاثوليكي الكاردينال «ريشليو» الذي اتخذه لويس الثالث عشر وصياً على العرش، وعيَّنه وزيره الأول، ولم يكن الملك قد بلغ سن الرشد.
بل، لعل هذه «الخضرمة» الكتائبية المركبّة هي التي تستثير التساؤل على غرابتها في التفاوت والتلقيح بنائب رئيس أول: «عمره عمرُ لبنان» المتقهقر الذي يُذْكَر وحاشا أن يُعاد.
ولكن… وهذا هو الأهم، أن الشيخ سامي قد ورث حزباً أنهكته التقلَّبات واقتُطعَتْ منه أشجار باسقة وأغصان وارفة، في زمن يتخبَّط بين أشداق الغرائز الفواجع، وفي وطن ينزلق في مهاوي الإنحدارات، وقد غاب عنه القادة التاريخيون وقام فيه قادة ينتحلون الصفة، فجلّ ما نتمناه للرئيس الشاب أن ينهض الحزب على يده الفتيَّة، وأن يسترد بعضاً مما تبقى من قواعده المصادرة وكتائبه المغيَّبة.