ستبرز مع الأيام معارضة شيعية نواتها معارضون حاليون ومنشقّون عن “أمل”
كنت في العاشرة يومَ اصطحبني والدي من قريتي الجنوبية زحلتة إلى جارتها جباع. ولمن لا يعرف “جباع الحلاوة” فهي كانت المصيَف الأحبّ إلى قلب المصطافين الشيعة والسنّة من سكان الساحل الجنوبي، وجزءاً من جبل عامل أحد مكوّنات دولة لبنان الكبير.
أفرز الشيعة قيادات سياسية مثل آل حمادة، وآل الأسعد، وآل عسيران حكموا حوالى 85% من سكان الجنوب إلى أن برز مطلع عام 1960 الإمام موسى الصدر مع مجموعة من رجال الدين الشيعة، وأسّس حركة “أمل”، والمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى. بقي الإمام الصدر قائداً للشيعة في لبنان حتى تغييبه عام 1978 في ليبيا، وكانت هذه المرحلة بداية التحضير لنشوء “حزب اللّه”، تزامناً مع انتصار الثورة في إيران. عندها انتقل الشيعة من تحصيل الحقوق إلى تحصينها والمطالبة سرّاً وعلناً بالمزيد. في هذه المرحلة، نشأ صراع سياسيّ دمويّ بين أنصار حركة “أمل” التي استلم رئاستها نبيه بري وأنصار “حزب اللّه”، وهنا تدخّل الرئيس حافظ الأسد، ورجّح كفّة “حزب اللّه”، باتفاق إيراني – سوري حفظ لحركة “أمل” وجودها مع إطلاق يد “الحزب”، وما سمّي بـ “المقاومة الإسلامية في لبنان” لمواجهة الاحتلال الإسرائيلي.
الخلاف بين “الحزب” و”الحركة” لم يكن سياسيّاً فحسب، بل دينيّاً بالأصل وهو اختلاف بالمرجعيات. ففي حين أن الإمام الصدر يتبع مدرسة النجف الدينية في العراق، فـ “حزب اللّه” يتبع مرجعية قُم في إيران، ويتلقّى التكاليف الشرعية من الوليّ الفقيه التي تعلو بمفاعيلها الدستور اللبناني. لكنّ التوافق السياسيّ بين مرجعيّتي الحزبين أي إيران وسوريا فرض اتفاقاً سياسياً صامداً إلى يومنا هذا، ومع بروز تغيير ملحوظ في مواقف برّي في الآونة الأخيرة وخصوصاً في مجالسه الخاصة، تُشير إلى عودة ظهور الخلافات بين الجانبَين.
فزوّار برّي في مرحلة ربط الجبهتَين اللبنانية والغزاوية يعودون متحدّثين عن امتعاض واضح لما يسمّيه برّي تدمير الجنوب. وعندما يُسأل عن سبب رفض “حزب اللّه” وقف الحرب وفصل الجبهتين يقول “اسألوا إيران وتكلّموا مع إيران فأنا مع وقف الحرب اليوم وفصل الجبهتين وتنفيذ الـ1701 وبناء الدولة”.
هذا ليس تسريباً ولا تحليلاً، هذا لسان برّي الذي يعرفه “حزب اللّه” قبل غيره، لكنّ الفريقَين لم يصلا بعد إلى “حلّ الرباط”. وإذا افترضنا وبحسب ما يقول الثنائيّ الشيعيّ إنهما يمثلان نحو 80% من الطائفة الشيعية في لبنان، فيبقى أن 20% هم أقرب إلى الحركة دينياً إن لم يكن سياسياً. وهنا ستبرز مع الأيام، معارضة شيعية سياسية نواتها معارضون حاليون ومنشقّون عن “أمل” بعد العمر الطويل لرئيس حركة شارف على عقده التاسع، وفي فترة تحتاج فيها الطائفة إلى قيادة جديدة تُعيد الثقة بين البيئة والقادة.
فما يُسمع اليوم من تأييد للـ “حزب” لا يؤخذ به، خصوصاً أن من تتلمذوا في مدارس المهدي وعلى نهج “حزب اللّه” لا يزالون غير مقتنعين بأن “الحزب” العسكريّ انتهى وهم سيدركون هول الكارثة بعد الحرب. يقول بعض العارفين “إن وجود السيد حسن نصر الله في “حرب تموز 2006″ وتحقيق نصر معنويّ على إسرائيل لم يمحوَا آثار الموت والدمار من صدور كثيرين لسنوات طويلة، وإن مشايخ الحزب تعبوا وهم يحاولون ترميم النفوس لسنوات وسنوات فكيف اليوم مع خسارة نصر الله وما تبقّى من الجنوب والبقاع وبيروت؟”. ويسأل آخرون “نصر الله كان بشخصه يمثّل 50% من المقاومة فكيف ستبقى بيئة حاضنة خسرت قائدها وأولادها وممتلكاتها وقضيّتها؟ وكيف سيُقنع “حزب اللّه” بيئته قبل معارضيه بسلاح ردع و “قوة الرضوان” ومسيّرات وصواريخ وكلّها مجتمعة لم تحم لبنان؟”.
وبالعودة إلى “جباع الحلاوة” وتلك النزهة الجميلة مع والدي أستذكر “قهوة المطل” حيث قال والدي لصديقه يوم كنا هناك: في هذا المقهى كنّا نسهر مع الحفلات حتى الصباح فلماذا منع “حزب اللّه” السهر”؟ أستذكر ذلك المقهى وأمَنّي النفس بأن أعود إليه قريباً في سهرة جنوبية في جبل عامل مع من يشبهونني من شيعة الجنوب.