لسنا في وارد النقاش حول القبول او الإعتراض على نتيجة الإستشارات النيابية الملزمة التي أجراها رئيس الجمهورية جوزاف عون وفق الأصول الدستورية والديمقراطية، والتي آلت إلى تكليف القاضي الدولي نواف سلام بتشكيل الحكومة العتيدة بعد تسميته من قِبل ٨٤ من أصل ١٢٨ نائباً في البرلمان اللبناني. كما أنّنا لسنا في معرض التشكيك بميثاقية التكليف لرئيس حكومة لم يسمّه أي نائب شيعي رغم أنها ليست مسألة عابرة مع مكوّن أساسي كبير ورئاسي في البلد! وإنما العبرة في التأليف.
فالنتيجة محسومة وقُضي الأمر. والإتفاق تمّ بين غالبية النواب على هذه التسمية المفاجئة بنسبتها التي لامست ثلثي أعضاء المجلس النيابي اللبناني، نالها الرئيس المكلّف بعد ضغوطات وتدخّلات خارجيّة في وضح الليل الأخير، أدّت إلى انقلاب أخضر في مواقف النواب والكتل النيابية المشتّتة، ودفعت بمرشح المعارضة النائب فؤاد مخزومي إلى سحب ترشّحه المترنّح أمام ارتفاع أسهم الوفاق حول ترشيح رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي بموازاة التوافق الوطني المهيب في انتخابات رئاسة الجمهورية.
غالبية النواب والكتل النيابية توالت على تسمية نواف سلام؛ منهم من تريّث، ومنهم من انقلب على تسميته نجيب ميقاتي في الليل! ومنهم من كان يساوم لأجل مصالحه الضيّقة وينتظر. واللافت كان تحوّل الثنائي الشيعي عن تسميته لميقاتي بعد انهيار أسهمه لتسعة أصوات فقط! ثمّ امتناعه عن التسمية في موقف اعتراضي على ما حصل من انقلاب على التوافق اللبناني الذي شارك فيه الثنائي بشكل أساسي بعد سريان اتفاق وقف إطلاق النار مع العدو الإسرائيلي، وحسم فيه انتخاب العماد جوزاف عون رئيساً للجمهورية.
وفي وقتٍ لاحق أعلن الثنائي الشيعي في خطوة اعتراضية ثانية عدم مشاركته في الاستشارات غير الملزمة التي يقوم بها الرئيس المكلف، وذلك في إشارة واضحة وحاسمة للقول بأن الطائفة الشيعيّة الكريمة في لبنان غير قابلةٍ للعزل، وأن الطريقة التي تمّت فيها تسمية الرئيس المكلف الأول بعد الحرب الإسرائيلية الهمجيّة على لبنان، جرت بما يشبه الخديعة السياسيّة، وبما لا يشبه انطلاقة العهد الواعدة بالتوافق الكبير حول قائد الجيش لتولي موقع الرئاسة الأولى في لبنان. وأن استمرار هذا النهج الإقصائي للمكوّن الشيعي في عمليّة تشكيل الحكومة القادمة سيكرّس انعزال السلطة التنفيذية الجديدة في أبعادها الدولية بما لا يخدم الوحدة الوطنية، وسيشكّل ضربة قوية وسريعة وغير متوقعة لانطلاقة العهد الجديد.
الرئيس المكلّف نواف سلام حاول في كلمته الأولى تبديد هواجس الثنائي الشيعي، مؤكداً أنه بفطرته وتكوينه وممارسته السياسية ليس من أهل الإقصاء بل من أهل الوحدة، وليس من أهل الاستبعاد بل من أهل التفاهم والشراكة الوطنية، وأنه يمد يديه الإثنتين إلى الجميع للإنطلاق في مهمة الإنقاذ والإصلاح وإعادة الإعمار. والواقع أن الثنائي الشيعي لم يوجّه اتهاماتٍ لشخص الرئيس المكلّف، أو طعناً بصدق نواياه المعلنة، إنما كان اعتراضه على ما اعتبره انقلاباً غير مبرّر على التفاهمات السابقة التي تمّت برعاية عربية ودولية. ولذلك ترك الثنائي الباب مفتوحاً لإمكانية التعاون مع الرئيس المكلف من أجل تشكيل حكومة ميثاقية تكون قادرة على تحقيق ما أعلن عنه الرئيس المكلّف، وبما ينسجم مع خطاب القسم.
وبدوره طمأن رئيس الجمهورية المكوّن الشيعي بقوله أمام وفد المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى برئاسة الشيخ علي الخطيب، أنه لا يمكن لمكوّن أن ينكسر وغيره ألا ينكسر، فإذا انكسر مكوّن، ينكسر لبنان بأسره. وأكّد أن عملية التكليف كانت ديمقراطية، وأن هناك مراحل أخرى يجب التقدّم بها. ولكن تبقى هناك ملاحظة أساسيّة يجب التوقف عندها، وهي تتعلق باختلاف آلية انتخاب رئيس الجمهورية عن آلية تكليف رئيس حكومة. فإذا كان مفهوماً ومقبولاً من الخارج أن يساعد الداخل وبموافقة المكونات الوطنية على انتخاب رئيس توافقي بسبب عجز أي فريق عن تأمين ٨٦ صوتاً لمرشحه الرئاسي وفق الأصول الدستورية، فإنه من غير المقبول وطنياً أن تتم عملية التدخل وفرض رئيس حكومة من الخارج، في وقتٍ لا توجد فيه أي صعوبة في الآلية الدستورية لتكليف رئيس الحكومة مشابهة للصعوبة في عملية انتخاب رئيس الجمهورية، إذ يكفي حصول المرشح على الأكثرية العادية لتكليفه بتشكيل الحكومة، وكان الأجدى الالتزام بالموقف الذي عبّرت عنه المملكة العربية السعودية أولاً بعدم التدخّل في التسمية، وترك هذا الأمر للنواب في البرلمان اللبناني.
في اختصار للمشهد السياسي القادم، وفي ردّه على سؤال حول ما إذا كانت مقاطعة الاستشارات غير الملزمة هي رسائل للخارج، قال رئيس مجلس النواب نبيه بري: «لبنان بدو يمشي». فهل يقوم الخارج والدول الفاعلة والمؤثرة بدعم لبنان للنهوض مجدداً بجميع مكوّناته الوطنية، وإعادة إعمار الجنوب والضاحية وجميع المناطق اللبنانية التي طالها الدمار في الحرب الأخيرة؟ أم أن سياسة الخارج ستفرض على اللبنانيين تنازلاتٍ ومساومةً على تعيين «مندوب سامي» لإعادة الإعمار!؟ بالتأكيد لن يقبل الرئيس نبيه بري ولا الرئيسان جوزاف عون ونواف سلام عزل أي مكوّن وطائفة في العهد الجديد، ولا مساومة على إعادة الإعمار، أو هكذا نأمل، وهذه ضمانة السلم الأهلي في لبنان.