الإشارات المتصلة بالصراعات المذهبية في الشرق الاوسط تتوالى، والخوف لبنانياً أن تتحوّل الردود التي تناولت خطاب الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله نحو اتجاهات مذهبية
تشهد إسبانيا، منذ أسابيع قليلة، خلافاً داخلياً بدأت أطراف خارجية تدخل على خطه، حول إبقاء تسمية كاتدرائية ومسجد مدينة قرطبة الاندلسية، أو التمسك باسم كاتدرائية «كوردوبا». وأخيراً هدّدت تركيا بإحياء مسجد آيا صوفيا، رداً على اعتماد البابا فرنسيس تسمية الابادة الجماعية في ذكرى المجازر التي ارتكبتها السلطنة العثمانية في حق مليون ونصف مليون أرمني، وحذّرت اليونان من مغبة عمل كهذا، ومن ثم حركة ألمانية داخلية لاعتماد تسمية الابادة الجماعية، رغم التخوف من ردّ فعل أنقرة.
ليس بسيطاً إحياء جذوة الخلافات الدينية في التعامل مع أحداث كهذه، تتعلق بتسمية كاتدرائيات ومساجد، أو الإضاءة على ذكرى مئة عام على الإبادة الارمنية على أعلى مستويات دينية وسياسية غربية، لتتحول فجأة نقاشاً أوروبياً وشرق أوسطياً عن تكاثر الاشارات حول تفشي الصراع الديني والطائفي، الذي يأخذ مداه تدريجاً في دول كانت لا تزال تغلّب الصراع السياسي على ما عداه.
منذ 11 أيلول عام 2001، أخذ الصراع مع الارهاب، رغم كل محاولات التجميل التي أجريت له، طابعاً ضمنياً، عبّرت عنه دراسات ونقاشات مراكز الابحاث، وردود الفعل في العالم العربي والاسلامي، عن حرب بين الغرب والعالم الاسلامي. واستمرت المحاولات العربية خصوصاً لنزع صفة الارهاب عن العالم الاسلامي، وحصر تداعيات 11 أيلول بفئات إرهابية وتنظيمات أصولية، نأت الدول الاسلامية بنفسها عنها وعن تمويلها ودعمها. وزاد من تعزيز منحى هذا الصراع استخدام الرئيس الاميركي آنذاك جورج بوش تعبير «الحرب الصليبية» في خطابه، رداً على اعتداء 11 أيلول.
لا يكفي الكلام عن مظلة الاستقرار الدولية لضمان عدم انفلات الساحة الداخلية
لكن ما شهدته منطقة الشرق الاوسط، بعد الحرب الدولية على أفغانستان والعراق، جعل الصراع يتحول في صورة تصاعدية صراعاً فئوياً. وبدل أن تبقى المواجهة في المنطقة بين عالمين، بدأت أحداث أفغانستان، ومن ثم حرب العراق التي أدت الى انفراط عقده، وبعدها حرب تموز في لبنان وتداعياتها، تأخذ الصراع الى منحى داخلي سنّي ــ شيعي في أوجه كثيرة، الامر الذي لم يكن متداولاً أو ظاهراً بهذه الحدة قبل أعوام قصيرة.
مع الربيع العربي راحت الحرب مجدداً نحو فرز أكثر وضوحاً بين عالمين يتصارعان، العالم السني والشيعي، بين اتهامات بقيام هلال شيعي في مقابل إحياء شعارات دولة الخلافة. ومع انفلات التنظيمات الاسلامية الاصولية على غاربها، في دول تعيش حروباً داخلية، بدأ العالم الغربي يتلقى أول ارتدادت هذا الصراع عليه، من اعتداءات كندا الى العملية الانتحارية ضد شارلي ايبدو في باريس وموسم الهجرة الاصولية من الدول الاوروبية الى أراضي «داعش».
يشهد الغرب الذي قاتل ووقف الى جانب مسلمي يوغوسلافيا إبان حرب قسمتها عدة دول، نقاشات حول تصاعد موجة الصراع الديني في الشرق الاوسط وملامسته أرضه. وما الاهتمام المتنامي حالياً في الاعلام والسياسة الاوروبية والغربية عن الابادة الارمنية وعن الاقليات المسيحية في الشرق الاوسط التي تترك أرضها في العراق وسوريا، وعن الاعدامات التي تنفذ في حق المسيحيين العراقيين والسوريين والمصريين والاثيوبيين، على أيدي التنظيمات الاسلامية الاصولية، إلا تعبير عن تصويب النقاش نحو هذا الصراع الديني الذي يقترب من حدود الحرب الدينية، وهو تعبير يستخدمه أحد السياسيين اللبنانيين.
اختبر لبنان في مراحل متقطعة من الحرب على أرضه الصراع الديني والطائفي، الذي يرى بعض من عايشه من موقع المسؤولية أنه لم يكن متجذراً، بدليل انتهائه بمجرد وقف الحرب العسكرية. لكن ما يشهده اليوم بدأ يثير مخاوف من استعادة أجواء وتعابير مستمدة من الصراع الشرق أوسطي الذي يلامس حدّ الحرب، الامر الذي يفترض معه إعادة استيعاب الاحتقان السائد، كي لا ينفجر مجدداً بين المجموعات اللبنانية.
في خطابه الاخير، تحدث الامين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله عن اليمن والحرب السعودية عليها، وانتقد بشدة الوهابية وما اعتبره من وقائع حول قيام آل سعود بهدم قبر النبي محمد، مدافعاً عن حق انتقاد السعودية. لكن الردود السياسية عليه، بدءاً من الرئيس سعد الحريري ونواب وقيادات في المستقبل وأطراف سنية أخرى، لم ترد على ارتباط الحزب بإيران فحسب، بل أضاءت على جزء غير سياسي في الخطاب، إذ ركزت على البعد الديني للخطاب ومذهبيته، فتوالى استخدام التعابير من نوع: خطاب ديني تكفيري، خطاب مذهبي، تحريض مذهبي، تعبئة مذهبية… حتى إن أحد النواب المستقبليين وصف الخطاب بأنه مذهبي على مستوى المنطقة وليس لبنان وحده.
لا يبشر هذا السجال «المذهبي»، بحسب تعبير القائمين به، باطمئنان الى الواقع اللبناني الحالي، رغم انغماس الجزء الاكبر من الطبقة السياسية في شؤون وشجون هامشية، إذ لا يكفي الكلام عن إبقاء المظلة الحوارية وحفظ الاستقرار دولياً وإقليمياً، لضمان عدم انفلات الساحة الداخلية، كي يصح استخدام مصطلحات وتعابير تحاكي ما يدور في بلدان مجاورة. ففي أزمة الشرق الاوسط الحالية، ولبنان من ضمنها، تتزايد كل يوم مخاوف المنحى المذهبي. وتدحرج الصراعات في المنطقة الى الوجهة التي اتخذتها حالياً، في ظل تصاعد الكلام عن إشارات طائفية، يطرح بجدية مخاوف من أن تتمدد محاولات استخدام لبنان ساحة لهذا التجاذب الطائفي، فيصبح خطاب نصرالله وردود الفعل عليه مقدمة لحالة تتفلت في أي لحظة غير مضبوطة إقليمياً ودولياً.