تتقاطع – وبمعنى ما تتصارع – المعادلات القديمة مع المعادلات الجديدة في حسابات الطائفيّات المسيطرة على السياسة اللبنانيّة وهي حسابات تشمل بل تقوم على مواقعها الداخلية في النظام السياسي وعلاقاتها العربية وغير العربيّة.
المعادلات القديمة معلنة.
المعادلات الجديدة غير معلنة.
المعادلات الجديدة غير معلنة حتى لو بدأت تُوجِّه أو حتى تغيِّر ضمنا بعضَ سياسات القوى المسيطرة على الطائفيّات.
المعادلات اللبنانيّة القديمة يمكن تحديدها الزمني بأنها كل ما سبق انفجار الوضع السوري عام 2011.
المعادلات اللبنانيّة الجديدة تبدأ عمليّا، أو تصبح في اللاعودة، بعد هذا التاريخ حتى لو سبقها عددٌ من التحولات قبل 2011.
نعم إلى هذا الحد غيّر الانفجار السوري في أسس الكيان اللبناني وبما يتجاوز وسيتجاوز قطعا تأثير النكبة الفلسطينيّة عام 1948.
قبل أن أنتقل لتحديد هذه المعادلات الطائفية الجديدة لا بد أن ألفت نظر القارئ إلى أنّني أستخدم تعبير “الطائفيّات” وليس الطوائف حين أتحدث عن القوى السياسية انطلاقاً من وجهة نظري أنه لا وجود سياسيّاً ثابتاً للطوائف بمعنى أن من يخوض الصراع السياسي ليس “الطائفة” بل المدرسة السياسية التي تسيطر على الطائفة وهذه تتغيّر بينما الطائفة ثابتة كجماعة حتى لو أن كل طائفة تُغيِّر نظرتها إلى نفسها حسب نظرة المدرسة المهيمنة عليها أي ليس فقط المهيمنة على سياستها بل على ثقافتها و “اجتماعِ” ها.
سنبدأ طائفةً طائفةً: الموارنة والمسيحيّون، الدروز والفئتان تمثّلان الطائفيّتين القديمتين في لبنان، ثم الشيعة والسُّنّة.
1 – الموارنة والمسيحيّون:
الجديد الجوهري في موقع الموارنة بعد الانفجار السوري هو تَراجع أولوية معادلة التناقض بين الكيان السوري والكيان اللبناني بمعنى الخوف اللبناني الماروني المزمن من التوسّع السوري على حساب لبنان. هذه معادلة قديمة عمرها من عمر ولادة الكيان اللبناني عام 1920 مع نشوء مسألة “الأقضية الأربعة” وانتقالها إلى مشكلة “مسلمي الساحل” التي حسمها قبول القيادات الطرابلسية واستطرادا المدن الأخرى بالكيان اللبناني اعتبارا من أول الأربعينات من القرن المنصرم.
هذه المعادلة التناقضية بين الكيانين بقيت تؤثر وتوتِّر في العلاقات اللبنانية السورية حتى أخذت تتفاقم بشكل خطر واحتقاني في عهد الرئيس حافظ الأسد ثم ذروتها مع خروج أو إخراج الجيش السوري من لبنان عام 2005.
بالنسبة للمسيحيّة السياسيّة كان منعطف 2005 أكبر انتصار كياني، بالنسبة للسنّية السياسية التي أصبحت تحت القيادة الحريرية السعوديّة ومعها الجزء الأوسع من الدرزية السياسية تحت القيادة الجنبلاطية كان أكبر انتصار لبناني على النظام “العلوي”، بالنسبة للشيعية السياسية التي أصبحت تحت القيادة “الحزب الإلهية” الإيرانية والأمليّة الأسديّة السورية كانت نكسةً كبيرة فتحت الصراع علناً بين الطائفيّتين السنية الشيعية أي أنها ضمّت لبنان “رسميّاً” إلى الحرب الأهلية السنية الشيعية التي كانت انفجرت في المنطقة بقيادة السعودية وإيران بعد التحول العراقي عام 2003.
هذا التناقض الكياني اللبناني السوري غيّرته عميقاً الأحداث في سوريا عام 2011. فهذه الأحداث كشفت الموقع المسيحي في كل المنطقة على مخاطر من نوع جديد. صار لبنان وسوريا والعراق وفلسطين والأردن مسرحا واحدا بالنسبة للمسيحيين في مواجهة خطر الاقتلاع الذي نجح كليا في العراق ونسبيا في سوريا.
لم يعد لمعادلة تناقض الكيانين السوري اللبناني المعنى نفسه بعد أن أصبحت الأولوية هي لساحة واحدة تمتد مسيحيا من الموصل إلى حلب فكسروان: أولوية الوجود. صحيح أن الكتلة المسيحية اللبنانية ليست معرضة لخطر وجودي مباشر ولكنّها فعليا باتت معرّضة لخطر استراتيجي كجزء من مسيحيي المنطقة.
هذا التغيير وَعَتْهُ عميقا الكنائس المسيحية وعلى رأسها الكنيسة المارونية واختلف عليه لأسباب متعددة السياسيون الموارنة.
لو كنتَ مكان بطريرك بكركي وصعدت في خط جغرافي مستقيم إلى أعلى نقطة جبلية في كسروان تطل على البقاع والشرق العربي ماذا سترى؟
سترى كتلة ديموغرافية مسيحية في جبل لبنان التاريخي، أي من جزين إلى زغرتا بشري “محاصَرة”عمليا بحصارين بعد الانفجار السوري:
“الحصار” الديموغرافي الواقعي الأول بمناطق المسلمين السنة والشيعة في لبنان من بنت جبيل جنوبا إلى حلبا العكارية شمالا مرورا بقوس يمتد على البقاع الغربي فالأوسط فالشمالي وفيه الشركاء المسلمون في الكيان اللبناني “السابق” مؤقتاً!!
الحصار الآخر يمتد على حدود الصحراء من شمال حلب إلى جنوب دمشق وفيه القوى الأصولية الإسلامية المتشددة وخصوصا “النصرة” و”داعش” وهو قوس باشر اقتلاع المسيحيين (وغيرهم طبعا) في شرقه في الجزيرة السورية العراقية ومسّ ببعض القرى والمدن المسيحيّة في الهلال الحربي الذي يقاتل الأصوليين والممتد من اللاذقية إلى دمشق والذي يقع تحت سيطرة النظام الحاكم في دمشق وضم ما تبقّى من المسيحيين السوريين. هذا هو الهلال الذي صلّى في أحد كنائسه في حلب قبل أيام البطريرك الأنطاكي للروم الأرثوذكس بمناسبة عيد الميلاد. وهذا مشهد من مشاهد بالغة الدلالة في الحرب السورية لا يحظى بِـ”الاعتراف” الكافي في لبنان.
بطريرك الموارنة سيرى إذن من مرتفعات فاريا وكفرذبيان ثلاثة أقواس وحصارين للمسيحيين.
هذا هو المتغيِّر النوعي الذي ولّد معادلة جديدة أوجدت التباسا هائلا في معطيات السياسة اللبنانية تجعل المسيحيين اللبنانيين يعيشون حاليا بين خليط من اعتبارات مختلفة قديمة وجديدة يفترض كلٌ منها حساباتٍ وسياساتٍ متناقضةً مع الأخرى.
لكن لا شك، كملاحظة ضروريّة في هذا المجال، أن الكنائس ولا سيما الكنيسة المارونيّة، أظهرتْ حسّا بفداحة الموقف العام أعلى بكثير ممّا أظهره السياسيّون المسيحيّون الذين لم ينتقلوا بعد إلى حالة طوارئ ضرورية.
2 – الدروز:
المعادلة التقليدية في جبل لبنان التي سيطرت على السياسة الدرزية الداخلية منذ المتصرفية هي أولوية التناقض والتوافق مع المسيحية السياسية اللبنانية. مثّل آل جنبلاط في حضورهم المتواصل منذ ما قبل المتصرفية هذا المسار تحديدا مع المسيحيين. إنها المعادلة التي مرّت بحرب أهلية في المتصرفية وحربين أهليتين صغيرة وكبيرة في “لبنان الكبير” وكلها مع الموارنة سقط في اثنين منها، الأولى والأخيرة، زعيم العائلة في حينه سعيد سجيناً ثم كمال اغتيالاً. واغتيل ثالث في فترة انتقالية هو فؤاد الذي ذهب نتيجة خياره المضاد وهو الخيار السلمي المؤيّد لعهد الانتداب الفرنسي. وبالمناسبة قد يكون من المفيد جدا الآن قراءة تلك الفترة الفرنسية (1920 – 1943) ولاسيما في سنواتها الخمس الأولى لفهم مرحلة انقسم فيها دروز لبنان حول الموقف من فرنسا والثورة السورية بما قد يشبه بصورة ما الخلاف على الموقف في الحرب السورية الحالية. كانت الذروة في الثمانينات من القرن الماضي والتي انتهت بضربة كبيرة للوجود المسيحي في جبل لبنان الجنوبي وجد الطرفان فيها نفسيهما متدحرجيْن إلى هاوية تراجيدية لا تسمح لأيٍ منهما سوى أن يبقى هو على حساب الآخر ولا خيار سوى ذلك لكل منهما. حرب الجبل هذه قدّمت أداءً تضامنيّاً قويا للدروز بسبب الإحساس بالخطر على الوجود لكنْ قد لا تكون هذه القاعدة دائمة كما يُظهر التباين الجدّي في وبين جبلي السويداء ولبنان حيال الأزمة السورية.
إذن معادلة التركيز التقليدي الدرزي اللبناني على العلاقة مع المسيحيين التي كانت إحدى أهم معادلات لبنان الكبير (صار من الأدق تسميته “لبنان الكبير القديم”) لم تعد تملك مقوماتها السابقة. المتغيِّر الكبير غير المعلن هو أن الديموغرافيا الدرزية باتت بين جارين “جديدين” (بالمعنى السياسي للجِدّة) نَقَلا مركز التجاذب – التوافق في السياسة الداخلية: الديموغرافيّتان الشيعية والسنية. أي إلى هذه الأولوية سواء في السلم الأهلي أو في الحرب الأهلية الباردة. وهذا تحوّل لم تتعوّد عليه ببنيته الحالية القيادة الدرزية التي كانت متدرّبة جدا على العلاقة مع المسيحيين وتقلّباتها.
“وسطيّة” وليد جنبلاط الحالية، باعتبار آل جنبلاط قيادة محترفة في الصراعات الأهلية، هي نتيجة هذه المعادلة الجديدة التي هي في جزئها السني الشيعي امتداد للمنطقة بكاملها. الخيار التقليدي الدرزي كان “عثمانيا” أي سنيا في المعادلة القديمة لأولوية التركيز على المسيحيين الذي كان يفرضه الوضع السابق في جبل لبنان. في المعادلة الجديدة للعلاقة التجاذبية مع الشيعية السياسية في صيغتها “الحزب الإلَهيّة” ما هي الخيارات؟ حتى الآن دعونا نقول إن هذه الوسطية لا تزال تفوح منها رائحة “عثمانية” قوية بما آلت إليه تسمياتها الجديدة ولا سيما السعوديّة القيادة الحالية الأكثر تأثيرا في سُنّة المنطقة. وهذا طبيعي.
لكنها المرة الأولى منذ قرن ونصف القرن، أيا تكن الخيارات الجديدة، التي لم تعد فيها الأولوية السياسية للدرزية السياسية أولوية مسيحية توافقا أو صداما. بل صارت تنظر من هواجس ديموغرافية وبالتالي سياسيّة أخرى.
السبت المقبل: المعادلات غير المعلنة للسُنّة والشيعة