وحدها تفاصيل المشهد السوداوي الذي ينتظر اللبنانيين خلال أسابيع معدودة، هي المطروحة على طاولات النقاش، بدءاً من مفاعيل وقف الدعم على النفط والقمح والدواء، انتهاء بجنون سعر صرف الدولار ومعه أسعار كل السلع الاستهلاكية، مروراً بفقدان العديد من الخدمات ومقومات العيش.
بات الكل يتعامل مع واقع أنّ جهنم صارت على الأرض، فيما نيرانها تزداد سخونة يوماً بعد يوم. وها هي أزمة البنزين تنتقل من المناطق النائية إلى قلب جبل لبنان والعاصمة فأقفلت المحطات أبوابها بعد نفاد الكميات المسلمة إلى المحطات. والحبل على الجرار…
أما غير ذلك، فلا حركة على سطح الماء. الأكيد أنّ ثمة مشاورات جانبية تجرى خلف الكواليس تحاول البحث في كومة التعقيدات والصعوبات عن منفذ ينعش المبادرة الفرنسية في جولتها الثانية، ولو أنّ الاعتقاد سائد أنّ الملف اللبناني موضوع في ثلاجة انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية. وجلّ ما يمكن للمسعى الفرنسي أن يقدمه، هو وضع أسس تفاهم قد لا يبصر النور الا بعد أسابيع.
ولذا لا يبدي رئيس الجمهورية ميشال عون استعجاله لتحديد موعد للاستشارات النيابية الملزمة. لن يخوض تجربة تسمية مصطفى أديب التي حصلت من دون تفاهم مسبق معه حول شكل الحكومة وتركيبتها، ولو أنّ الاعتقاد كان سائداً أنّ مندرجات المبادرة الفرنسية هي التفاهم بحدّ ذاته. واذ تبيّن أنّ تجربة التسمية المجرّدة من أي تفاهم ستوصل إلى حائط مسدود. ولذا لن يعيد الكرّة.
ولكن إلى أي مدى قد يبقي رئيس الجمهورية هذه الورقة مجمدة في جاروره؟
في الواقع، إنّ الصلاحية الممنوحة لرئيس الجمهورية بتحديد موعد الاستشارات النيابية هي سيف ذو حدين، قد تتحول في أي لحظة من ورقة ضغط لمصلحته الى ورقة ضغط عليه، اذا ما تمّ التصويب عليه واتهامه بأنّه يعرقل قيام حكومة جديدة. يدرك عون جيداً أنّه لا يمكن تعليق المهل الدستورية بلا أي سقف زمني، لأنّ هذا التعليق سرعان ما سيرتد عليه سلباً خصوصاً في هذه الظروف الاستثنائية التي أسقطت كل ترف ممكن من أيدي القوى السياسية. وبالتالي يُنتظر من رئيس الجمهورية أن يباشر سلسلة اتصالات لإحداث أي خرق في جدار المشاورات قد يؤدي إلى تحديد موعد للاستشارات، التي سيكون عليه عاجلاً أم آجلاً فعلها.
أهم من ذلك، فإنّ قيام حكومة هو ضرورة قصوى لعهد ميشال عون، وهو أكثر المتضررين من دفع المبادرة الفرنسية في جولتها الثانية الى التراجع أو تفشيلها. ولذا، يفترض أن تكون الانطلاقة من قصر بعبدا بحثاً عن صيغ جديدة تستثمر في المسعى الفرنسي، ولو أنّ المعنيين يؤكدون أنّ السقوف العالية التي بلغتها مواقف كلّ من الثنائي الشيعي ونادي رؤساء الحكومات السابقين، ستصعّب المهمة وتعقّدها أكثر في ضوء الترجيحات التي تقول إنّ القوى اللبنانية هي التي ترفض هذه المرة النزول عن شجرة تصعيدها.
وهذا ما يقود إلى سؤال محوري: هل يدفع الأفق المسدود إلى البحث عن صيغة حكم جديدة بعدما استنفد “الطائف” كل مقومات الاستمرارية؟
وفق المطلعين على موقف الثنائي الشيعي، وهو أكثر المتهمين بالسعي إلى الانقلاب على “وثيقة الوفاق الوطني” وقد رُبط تمسكه بالتوقيع الثالث الذي تمثله حقيبة المال برغبته في نقل المثالثة من الممارسة إلى النصّ، فإنّ الشريكين الشيعيين غير مستعجلين لنسف الصيغة القائمة على عكس ما يطالهم من حملات وانتقادات، خصوصاً أنّ الكلام عن لقاء وطني قد تستضيفه باريس بمحاذاة مؤتمر الدعم الدولي، يستدعي رعاية دولية متعددة الأطراف، سعودية وايرانية وطبعاً غربية ولا يبدو أن ظروفها متوافرة أقله في المدى المنظور. غير أنّ قيام نظام جديد قد لا يحصل إلا على الحامي، وهذا شرط مضرّ ولا ينفع. وبالتالي، يقول هؤلاء إنّ الثنائي الشيعي يفضّل تطبيق “الطائف” وتطويره بهدوء وبروية، لا نسفه أو تعديله على نحو جذري.