حذَّر الملك الأردني قبل عقود، من إقامة هلال شيعي في منطقة الشرق الأوسط، مركزه طهران، على حساب الدول العربية؛ ثم جاءت الوقائع في لبنان وسوريا والعراق واليمن، لتثبت ما تخوَّف منه الملك.
تأسس الهلال المذهبي على القضية الأم في الشرق الأوسط، القضية الفلسطينية، وارتكز على أمرين: الأول إظهار العداء المطلق لإسرائيل، والثاني إتِّهام الدول العربية، السنّة بأغلبيتهم، بالتخاذل تجاه القضية الفلسطينية. لكن الوقائع أكّدت لاحقاً، أنّ إيران لم تكن يوماً على عداء مطلق مع إسرائيل؛ فالإمام الخميني كان يوصي جماعته، من جهة بالتعاون سرَّاً مع إسرائيل؛ ومن جهة أخرى برفع الخطاب المعادي لها في الإعلام إلى أقصى الحدود. بدليل أنّ نظامه زوَّدَ الإستخبارات الإسرائيلية بالمعلومات الدقيقة عن مفاعل «تموز» النووي العراقي لتسهيل تدميره من قبل الجيش الإسرائيلي؛ بالإضافة إلى الإجتماعات واللقاءات العديدة التي كانت تحصل بين مسؤولين إيرانيين ومسؤولين إسرائيليين في مدريد، جنيف، هامبورغ، تل أبيب والقدس…
بعد سقوط صدّام حسين، توسعت إيران فوق ساحات الشرق الأوسط؛ فسيطرت على العراق وسوريا ولبنان واليمن، وشكَّلت «هلالها» الموعود فأسقطت دولاً؛ لكنها لم تتمكّن من بناء دولٍ بديلة، محقِّقةً بذلك سيطرتها على دول «الهلال»، من دون أن تنجح في تأمين استقرار أيٍّ من هذه الدول، ومهدِّدةً في الوقت نفسه استقرار بقية دول الشرق الأوسط تحت عنوان «التخاذل». استفادت إسرائيل من هذا الوضع لتنسجَ علاقات ومصالحات مع عددٍ من الدول العربية، وعلى رأسها دول الخليج، تاركةً إيران وحدها تتخبّط بفوضاها في دول «الهلال». فجاءت ردّةُ الفعل الإيرانية برفع التحدّي في قطاع غزة في السابع من تشرين الأول الفائت. فهل استفادت إيران من عمليةِ غزة؟
بالعكس، فضحت حربُ غزة الدولة الإيرانية في مجالين:
– عسكري، ظهرت فيه إيران بمثابة نمرٍ من ورق. فقادتها العسكريون يُقتلون فوق الساحات، وردّاتُ فعلها العسكرية الخجولة، تُنسِّقُها مع الولايات المتحدة الأميركية وأحياناً بمباركة إسرائيلية، وسلاحها الزاحف من إيران بسرعة «البط»، إمّا يسقط في الطريق متعباً أو «يعلق» بخطوط التوتُّر العالي… وهكذا تأكدت قوى الممانعة، بأنّ خطاب إيران العسكري الذي يتوعّد برمي إسرائيل في البحر، لا يعدو كونه خطاباً تحريضيّاً، يهدف إلى السيطرة على عقول الممانعين ودولهم. بالمقابل أثبت الردُّ الإسرائيلي في أصفهان، أن إسرائيل ليست «أوهن من بيت العنكبوت»، كما يحلو للبعضِ أن يُسوِّق.
– سياسي: منذ بدء عمليةِ غزة، تملّصت إيران من مسؤوليتها أو معرفتها في العملية؛ وتركت «حماس» وحيدةً مع التظاهر ببعض الدعم من جنوب لبنان واليمن؛ بينما وحدات حرسها الثوري، تنشطُ فوق الأرض السورية لسرقةِ أموال السوريين، كما صرَّح من مدينة اللاذقية الناشط السوري بشّار البرهوم، وليس لمحاربة إسرائيل. حتى إنها أقدمت على سحب معظم وحداتها من سوريا، لتفادي المواجهة المباشرة مع الجيش الإسرائيلي، لتؤكد على المعادلة التالية: الموت في الحرب لأبناء دول «الهلال»، والسياسة لطهران. وهكذا يجتاح شعوب الممانعة سرّاً التساؤل التالي: إذا لم تتحرَّك إيران عسكريَّاً في حربٍ تدميرية كالتي تحصل في غزة طيلة ثمانية أشهر، فمتى يمكنها الوفاء بوعودها! ليخلصوا إلى القول إنّ طهران تريدُ محاربة إسرائيل حتى آخر عربي.
لا يمكن استمرار النفوذ الإيراني في دول «الهلال» التي تحللت فيها المؤسسات بسبب هذا النفوذ؛ وانتقلت من حالات الإستقرار والبحبوحة، إلى حالة الفوضى والإفلاس. والرفض الشعبي السرّي العارم في هذه الدول، هو بداية حتمية لتراجع الدور الإيراني، وعودة هذه الدول إلى مواقعها الطبيعية بعد التجربة الفاشلة مع إيران. لذا يمكن القول إنّ حرب غزة فضحت إيران بحجمها العسكري المصطنع، ودورها السياسي الخبيث في المنطقة على حساب المذهب والقضية؛ وبالتالي بداية تراجعها عن الساحات، وتفكُّك هلالها الشيعي. يبقى السؤال متى؟ إنها إرادة شعوب «الهلال» المسلوخ اليوم عن تاريخه.