لا حكومة قريباً، لكن لا اعتذار حتماً. هي المعادلة الجديدة حتى إشعار آخر. ستستمر اجتماعات رئيس الجمهورية والرئيس المكلف إلى أن يتوصّلا إلى كنه كلمة السرّ المرسلة حديثاً إلى كليهما: خطوات متوازنة، يراد منها القول بتنازلات متبادلة
على ذمة رواة مطّلعين، تلقّى الرئيس المكلف نجيب ميقاتي يوم الجمعة الفائت نصيحة من رئيس البرلمان نبيه برّي، موثّقة من حزب الله، تحضّه على عدم التفكير في الاعتذار عن عدم تأليف الحكومة. أوجب هذا التدخّل ــــ تبعاً للرواة أنفسهم ــــ ميل جدّي لميقاتي الى هذا الخيار في ضوء تعثّر تفاهمه مع رئيس الجمهورية ميشال عون، رغم ما كان قد جهر به قبلاً أن الاعتذار ليس في أجندته.
ما حملته نصيحة الثنائي الشيعي إضافة ذات دلالة، هي أن الأبواب غير موصدة على الاتفاق مع رئيس الجمهورية. بيد أن ما يحتاج إليه كلاهما خطوات متوازنة في صيغة متوازنة، تعني قليلاً من التراجع الى الوراء. فحوى النصيحة أيضاً أن يعضّ الرئيس المكلف قليلاً على أصابعه وينتظر الفرج الآتي.
أبرَزَ موقف الثنائي الشيعي تمسّكاً بالرئيس المكلف، وفي الوقت نفسه تفادي أي إجراء سلبي يعيد تأليف الحكومة الى النقطة الصفر، فيما هو أحرز في الاجتماعات الثلاثة عشر تقدماً وإن مترجّحاً، من غير أن يُقيم مجدداً في العدم. المشكلة الحالية بين عون وميقاتي، نفسها كانت بينه وبين الرئيس سعد الحريري، لكن بفارق جوهري لم يكن في الإمكان الحؤول دونه، أو في أحسن الأحوال تخفيف وطأته، هو أن رئيس الجمهورية لم يكن يريد الرئيس المكلف السلف في الأصل شريكاً له في السنة الأخيرة من الولاية. لذا بدا من السهل أن يختلفا يوماً تلو يوم، ويتلاسنا، ويتبادلا الإهانات والاتهامات، ويحرّكا قاعدتيهما، وصولاً الى القطيعة الطويلة.
مع تكليف ميقاتي، لا خلفيات شخصية تحكم علاقته برئيس الجمهورية أو العكس، من غير أن يخلو الأمر ممّا يمكن أن يسود تعاوناً محتملاً بين رئيس للجمهورية ورئيس مكلف، وهو اقتناعات كل منهما في مقاربة تأليف الحكومة ما داما سيوقّعان معاً مراسيمها وإن بصلاحيات غير متكافئة تماماً. لذا راح يُستنتج من اجتماعاتهما الأخيرة ــــ ما إن شاع أنهما بدآ الخلاف ــــ أن كلاً منهما متمسك بالسقف السياسي نفسه الذي رافق تكليف الحريري: لا عون ينزل عنه كي يعطي ميقاتي ما لم يُعطه للحريري وهو لم يُرده في الأصل، ولا أن يتخلى عن أي من شروطه التي تحفظ له موقعه داخل معادلة الحكم. ولا ميقاتي جاهز لخفض سقف سلفه المعتذر بالتنازل عمّا لم يُقدم عليه ذاك حرصاً على مكانة الطائفة والصلاحيات المنوطة لها بهذا المنصب ومراعاة حلفاء الحريري ووعوده لهم.
قوة ميقاتي في نادي رؤساء الحكومات السابقين، حليفه وخصمه في آن
هكذا علقت اجتماعات التأليف بين سقفين صلبين، لا يتسرّب إليهما الهواء. بيد أن الحوار لم يتوقف، ولا هو في صدد الذهاب الى قطيعة كما في تجربة الأشهر الثمانية المنصرمة. ليس ميقاتي كسولاً كالحريري يبحث عن عقول تفكّر له وعنه، ولا هو قليل الخبرة في المناورة والتشاطر وقلب الأوراق وإخفائها في الأكمام. الأصح أن كلاً من رئيس الجمهورية والرئيس المكلف، في قرارة نفسه، يثق بأنه قادر على جذب الآخر الى اقتناعاته.
مع أن علاقة عون وميقاتي لم تبلغ الحائط المسدود، وقد لا تصل إليه ربّما، إلا أن حجم التباين بينهما ليس قليلاً. كلاهما في موقع لا يُحسد عليه كثيراً:
عون في السنة الأخيرة من ولايته التي يريد الخروج منها ــــ رغم كل الانهيار الضارب في البلاد ــــ بإنجازات ما، وإن قليلة قياساً بما يحدث في الآونة الحالية. بل تكاد السنة الأخيرة في ولايته تكون مطابقة للتي رافقت أسلافه الرؤساء السابقين، ما خلا استثناءات نادرة شهدها رؤساء ختموا عهودهم باستقرار أو بحدّ أدنى منه على الأقل، كفؤاد شهاب وإلياس هراوي، من غير أن يبدوا متشابهين ولا حتماً كانا كذلك، بل بفضل الظروف الآمنة ــــ ذات المصدر الخارجي ــــ التي أحاطت بالولاية.
أما الرؤساء السابقون الآخرون جميعهم تقريباً، فيكاد يصحّ القول إن كلاً منهم انتهت سنته الأخيرة إما بنزاع دموي، أو حرب كانت تكبر أو تصغر، أو بأزمة كيانية وطنية كبيرة. آخر سني ولاية الرئيس، أي رئيس، في الغالب هي السنة الأسوأ لما يرافقها أو يُخلّفه وراءه. لا يخرج رئيس الجمهورية الحالي عن هذه القاعدة.
بذلك يحتاج الى مخرج ما للولاية يمكن أن يشبه المكسب ــــ وقد لا يكون كذلك ــــ من أجل مغادرة مشرّفة: بشارة الخوري ترك عام 1952 الحكم بمخرج مشرّف هو الاستقالة، وكميل شمعون برفض إسقاطه بالقوة وبالدم عام 1958 سنته الأخيرة، وشارل حلو باتفاق القاهرة عام 1969 لوقف نزف الحرب الناشبة بين الجيش والمقاومة الفلسطينية، وسليمان فرنجية بتسوية إصلاحية عام 1976 اقترنت بدخول الجيش السوري الى لبنان، وإلياس سركيس بتأمين انتقال للسلطة عام 1982 الى بشير الجميّل كان يؤمل منه إنهاء الاحتلالات الأجنبية، وأمين الجميّل بتجنّب الفراغ بحكومة انتقالية لا تضع البلاد كلها في أيدي السوريين، انتهاءً بإميل لحود وميشال سليمان.
اجتماعات الرئيسين عالقة بين سقفين لا يتزحزحان ولا ينخفضان
بدوره ميقاتي قد لا يُحسد هو الآخر على التجربة الجديدة التي يختبرها في ثالثة حكوماته. بلا ظهير معلن على الأقل كحكومة 2005 عندما حُددت وظيفتها بإجراء انتخابات نيابية عامة حينذاك تؤمن انتقالاً للسلطة من حلفاء سوريا الى خصومها، من غير أن يكون لاعباً مباشراً ومؤثراً في هذا الانتقال سوى رعاية الاستحقاق. ثم في ضوء تجربة حكومة 2011 مُعوّلاً على غالبية نيابية أتاحت له إدارة توازن سياسي بين مقاطعة قوى 14 آذار له، ودعم قوى 8 آذار، ونشوء كتلة وسطية كان أحد رعاتها ومديريها. في تأليف ثالثة حكوماته التي تفتقر بعد الى تسوية داخلية وخارجية، وإلى ظهير عربي أو غربي جدّي يسند ظهره وخياراته ورهاناته إليه، لا قوة يستمد منها خوض معركته هذه سوى نادي رؤساء الحكومات السابقين واستنفار طائفته. ليس خافياً أن النادي حليفه وخصمه في آن، كما كان كذلك مع الحريري.
ليست حال نادي رؤساء الحكومات السابقين وخياراتهم المضمرة أحسن، ولا أفضل، ممّا كان عليه «الحلف الثلاثي» ما بين عامَي 1967 و1970: ثلاثة زعماء موارنة مرشحون لرئاسة الجمهورية، لا أحد منهم يريد لرفيقه الوصول الى المنصب، ولا وصول أي آخر خارجهم إليه. كل منهم مرشح محتمل ودائم عندما يتعثر رفاقه، ويساهم هو بالذات ضمناً في تعثره.
كذلك شأن الرؤساء السابقين للحكومة. أربعة زعماء سنّة، لا يريدون خامساً لهم في السرايا ولا في ناديهم، ما يقتضي أن يفشل أولهم وهم يصفّقون له كي يخلفه الثاني. وهكذا دواليك تدور الدائرة. بنجاح تمكّن النادي وفيه أعضاء مخضرمون، بينهم شريرون وطيّبون وساذجون ومحنّكون، في أن يتقدّم دار الفتوى فلا تكون هي المرجع السياسي للطائفة على نحو ما اعتادته بقوة منذ منتصف السبعينيات حتى أواخر الثمانينيات، قبل انطفاء دورها السياسي هذا بوصول الرئيس رفيق الحريري الى السرايا. يرسمون الخطوط الحمر من حول الطائفة، ويمحونها من حول الآخرين، ويؤلّبون عليها.
على نحو ما، رغم عمره الذي لم يتجاوز بعد خمس سنوات، يحاول النادي الانتقال الى دور غير مسبوق، هو التحوّل مرجعية رئاسة الحكومة لمجرد أن يصبح أي رئيس مكلّف أسيره.