أن ينحدر سقف الطموحات الوطنيّة لعقد جلسة لمجلس الوزراء في ظل أعمق الأزمات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والمعيشيّة وأشدها ضراوة، فإن ذلك يعني أن لبنان وبعض القوى السياسيّة القابضة على السلطة فيه يعانون أولاً وقبل كل شيء، من أزمة أخلاقيّة.
سواءً أكانت عودة «الثنائي الشيعي» إلى المؤسسات ترتكز إلى أسباب داخليّة أم خارجيّة فذلك، على أهميته، يبقى دون مستوى المشكلة الأخلاقيّة العميقة التي يعاني منها لبنان جرّاء سياسات قوى وأطراف تصادر قراره الوطني وتحتجزه، وتحرّكه في الاتجاه الذي يتلاءم مع مصلحتها الفئويّة المباشرة ومع مصلحة الأطراف الإقليميّة التي ترعاها.
في التحليل السياسي، كُتب الكثير عن مفاوضات «فيينا» وعن إنفراجات سياسيّة إقليميّة كبيرة سوف تشهدها المنطقة برمتها من لبنان إلى العراق إلى اليمن. طبعاً، تبقى فلسطين القضيّة المنسيّة، والشعب الفلسطيني متروك لقدره وهو يقع بين سندان الاحتلال الإسرائيلي، ومطرقة الانقسام الوطني الفلسطيني!
قد يكون بعض ما كتب ينطوي على شيء من الصحة، وبعض المعلومات التي سُرّبت فيها شيء من الدقة، ذلك أن الترابط العضوي الذي فرضه تقدّم الدور الإيراني على الصعيد الاقليمي بات أمراً واقعاً لا يمكن التغاضي عنه أو نكرانه. حتى ولو كانت طهران مأزومة في هذه اللحظة السياسيّة بالتحديد ومرهقة نتيجة التكاليف الباهظة لبرنامجها النووي المبتور، ونتيجة تمويل أذرعها الخارجيّة في لبنان والعراق واليمن وسواها من الساحات، وأيضاً نتيجة تدهور الاوضاع الاجتماعيّة والمعيشيّة في الداخل؛ إلا أن هذا لا يلغي أنها أصبحت لاعباً إقليميّاً له دوره، السلبي، بطبيعة الحال، على مستوى الشرق الأوسط.
ولكن، القضيّة بالنسبة للرأي العام، ولو كانت ترتكز على القليل من التبسيط، تتصل بقدرة تلك القوى على تعطيل المؤسسات الدستوريّة لأسابيع طويلة لتحقيق مآربها المشبوهة في «تطيير» تحقيق إنفجار مرفأ بيروت، والتأكد من عدم وصوله إلى نتائج حاسمة تكشف كل ملابساته الخطيرة، دون أن تكترث لمعاناة اللبنانيين وآلامهم ومآسيهم جرّاء إنهيار العملة الوطنيّة وتدهور سعر الصرف والانهيار التدريجي لمختلف القطاعات، وليس آخرها قطاع الاتصالات الذي بدأت تباشيره تلوح في الأفق!
حتى القاعدة الشعبيّة لتلك الأطراف تعاني الأمرّين مثل سائر اللبنانيين وتريد الخلاص رغم أن قنوات التعبير مقفلة لديها بفعل الإطباق على كل مفاصل المجتمع. ألا تجمع المعاناة المعيشيّة الراهنة بين أبناء كسروان وعكار والنبطيّة والمتن وبيروت والضاحية الجنوبيّة؟ أليس غلاء الأسعار الفاحش في كل مكان؟ أليس تفلت بعض التجار وجشعهم حالة قائمة في كل المناطق اللبنانيّة دون إستثناء؟
أما آن الأوان لإيجاد مساحة ما يمكن من خلالها «تمرير» القرارات الإقتصاديّة المطلوبة دون شل المؤسسات وإنتهاك الدستور ودك أسسه ومرتكزاته وتجميد أحكامه فقط من أجل المصالح الخاصة؟ ألا يشكل الانفراج الاقتصادي مساراً يسقط عن كاهل تلك الأطراف الكثير من الأثقال والمطالبات الاجتماعيّة من قبل الناس الموجوعة والمتألمة التي صارت بأغلبيتها الساحقة تحت خط الفقر نتيجة التدهور الراهن غير المسبوق؟
الإنقاذ الإقتصادي ليس مستحيلاً، رغم أن مساره طويل ومتعرّج وشاق. ولكن الانقاذ يتطلب إرادة سياسيّة مرتكزة على الأخلاق السياسيّة أولاً وأخيراً، ويستند على فكرة أن ترك الشعب المسحوق لقدره القاسي لا يمكن أن يكون خياراً عاقلاً تحت أي ظرف من الظروف. ولكن من أين سنأتي بالأخلاق؟
لأن إرادة الحياة أقوى، ولأن الكتابة والصحافة هي مهنتي القديمة وهي فعل صمود وإستمرار بعد الخسارة التي منيت بها جرّاء فقدان رفيقة الدرب والروح رانيا، عدت إلى هذا العمود الأسبوعي، أفرّغ فيه القليل من حزني على الصعيد الشخصي… والوطني.