بتاريخ 24/1/1975 وإثر فوز المرشح المدعوم من حركة المحرومين الدكتور رفيق شاهين وسقوط مرشح رئيس مجلس النواب الأسبق كامل الأسعد في الانتخابات الفرعية في مدينة النبطية، قال الإمام السيد موسى الصدر: «كنت ولم أزل مقتنعاً وساعياً الى تصحيح المناخ السياسي في لبنان من خلال التركيز على المبادئ، أحارب التسلط والرشوة وشراء الأصوات وضغط السلطة والتأثر بالمصالح الخاصة وضرورة وجود ميثاق بين المرشح وبين الناس، من خلال إلتزامه ببرامج معينة والسعي لجعل الأهداف هي المنتصرة لا الأشخاص».
يبدو هذا الإمام الإصلاحي المُجدِّد غريباً عما يسمى «الثنائي الشيعي»، وربما لو كان بيننا وقرر دعم لائحة تغييرية تحمل هذه المبادئ التي يجب أن تُعتَمد في مقاربة الشأن الإنتخابي، لكان إتهمه هذا الثنائي بالخروج عن التكليف الشرعي أو تعريض وحدة «الطائفة» للخطر أو أنه يُهدد سلاح المقاومة، الى ما هنالك من تقريعات دأب الثنائي على إستعمالها في وجه أي إحتمال لولادة معارضة أو حتى إعتراض شيعي، ولو كان يلتزم الخيارات الإستراتيجية نفسها التي جعل منها ثنائي المزايدة بتلك الخيارات مادة للإقصاء والإلغاء والتخوين والتهديد والأذية!
هو حصار للغالبية من الشيعة الذي سجلوا إعتراضهم مقاطعة أو إنكفاء أو لامبالاة، وهو أمر لا يقتصر على المقيمين بل ينسحب على الغالبية العظمى من المغتربين الذين كان خيار عدم مبادرتهم الى التسجيل للإقتراع، وخصوصاً منهم مغتربي القارة الأفريقية رسالة لـ»حزب الله» تحديداً بأن العودة الى التمسك بمنظومة الفساد في الدائرة الشيعية وخارجها وحمايتها وإعادة تعويمها على الرغم من ضعفها وإندثار شعبيتها، يعني أن الحزب مصمم على خسارة شريحة الأوادم المقيمين والمغتربين من الطائفة، وهي الشريحة الأوسع حضوراً في المجالات الحيوية: العلمية والثقافية والإجتماعية والإقتصادية.
غير أن الأهم أن تركيبة اللوائح التي أصر الثنائي على إعادة إنتاجها بمعظم وجوهها المُحنط منها سياسياً والمتحرك، أكدت للمرة السابعة أن هذا الثنائي يُمعن في فرض عُقمٍ سياسي على طائفة ولاَّدة وزاخرة بالطاقات المميزة والمتميزة على الصعد كافة.
أما الأكثر إستغراباً فهو أن يحاصر الحزب الطائفة بخيار محسوم سلفاً في إختيار رئيس للمجلس النيابي، وأن يمنع عن الطائفة والبلد والكتل النيابية الأخرى الممثلة للشرائح اللبنانية كافة أي إحتمالات مستقبلية غير تلك المنضوية ضمن كتلة الرئيس نبيه بري، مع ما يعتري بعض أسمائها من شبهات وملاحقات رقابية أو قضائية، خلال قيامها بأدوار وزارية أو إدارية أو نيابية، خصوصاً في ظل القرار الذاتي الذي يتخذه «حزب الله» بعدم التصدي لفكرة ترؤس المجلس النيابي.
اليوم وبعد إنفلات مفاصل القرار السياسي الداخلي من بين يدي الحزب نتيجة خسارته وحلفائه الأكثرية النيابية الوازنة، خصوصاً وأن البلد على مقربة أشهر قليلة جداً من خروج حليف الحزب الرئيس ميشال عون من قصر بعبدا، يبدو أن فشة الخلق ستكون مزيداً من التضييق من قبل الثنائي على أي حالة «شيعية» تحمل مشروعاً وطنياً، يمكن أن تنشأ كتعبير عن عدم القبول بالمزيد من الطغيان «الميليشيوي» أو الإستقواء المبطن على الطائفة. وهي مفارقة عجيبة أنه كلما زاد الضغط الخارجي على الحزب خاصة- بإعتبار أن الرئيس بري وجماعته صاروا ملحقاً غير مؤثر- نتيجة عدم وصول التسويات الإقليمية والدولية الى خواتيمها المنشودة، أن ينعكس ذلك مزيداً من إحكام القبضة على الطائفة وعلى مقدراتها وحراكاتها وحيوياتها المحتملة، بدل أن ينفتح الحزب على هذه الحراكات والحيويات إنطلاقاً من تطابق مقارباتها مع الحزب في الشؤون الإستراتيجية وإختلافها معه حول أسلوب وآليات إدارته للشأن الشيعي خاصة والوطني عموماً، خصوصاً في ما يتعلق بأولويات الإصلاح الاقتصادي والإجتماعي والسياسي، الذي لا يمكن أن يرى النور أو أن يسلك طريقه الى التنفيذ في ظل إحتضانه لـ»المحميات الإدارية والسياسية الطائفية» التي بَنَتها بعض القوى السياسية وفي مقدمها حلفاؤه!
أما المعادلة الأغرب فتتمثل في ترداد ركني الثنائي دائماً مقولة أنهما كمكون سياسي لبناني مستعدان لمد اليد للمكونات اللبنانية الأخرى، في وقت يعملان فيه على إبقاء أيدي الشيعة الآخرين مغلولة، فلا يحررونها ولا يمدان يديهما لملاقاتها.
لذلك يحتاج الحزب الى الوثوق بنفسه وبالشيعة أكثر فأكثر، يثق بنفسه ليتحرر من عقدة عدم القدرة على قيادة مشروع شيعي وطني قائم على المواءمة بين المقاومة وبناء الدولة، ويثق بالشيعة بحيث يتجرأ على توسيع مساحة الحرية والحوار والإختلاف معهم حول المسائل الوطنية والمصيرية المطروحة كافة.
من المؤكد أن الحزب لن يتوقف عن إعتماد قراءة الوقائع السياسية «من الخارج الى الداخل»، ولكن بوسعه مقاربة هذه الوقائع انطلاقاً من القاعدة الشعبية «الشرعية» بأن زيت الإنارة إذا احتاجه أصحاب البيت يَحرُم على المسجد.
ومن الغريب أن لا يعمد الحزب الى إجراء خلوة مراجعة لأدائه الذي يغلب عليه طابع الإرباك منذ انتفاضة «17 تشرين»، خصوصاً لجهة البحث في ما يتعلق منها بعلاقاته مع شرائح المجتمع اللبناني الأخرى، وبالأخص جيل الشباب الحالم بمستقبل أفضل في بلاده وليس في الخارج. ولا يمكن لهذه المراجعة أن تستوي دون أن تنطلق من المفهوم الإنساني-الوطني القائم على قبول الآخر المختلف الشيعي أولاً واللبناني عموماً. ذلك أن الحقيقة التي ربما لا تصل الى آذان قيادة الحزب أن هذا الجيل يعتبر الحزب مسؤولاً عن إفشال انتفاضته وتدمير أحلامه بغية الحفاظ على حلفائه في منظومة الفاسدين والفاشلين الذين يتكئ عليهم في السلطة.
ربما تتيح مراجعة الحزب هذه فهم الديناميات التي قادت الى هذا التشكيل الإنتخابي الجديد الذي أفضى الى خسارته الأكثرية في المجلس النيابي في توقيت داخلي حساس وخارجي مُبهم، بحيث لم يتمكن مع شريكه في الثنائي، من تسجيل أي انتصار سوى على الشيعة من خلال إلزامهم بالقديم الفاقد للفعالية والصلاحية والمنفصل عن الواقع والمستقبل.