منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، بدأت تجثم على صدور اللبنانيين منظومة حفرت أنفاقاً من الفساد، ولا تزال، فكانت هذه الأَنفاق المسبِّب الأبرز في انهيار البلد، ولم تفلح كل محاولات تدميرها، مع أن الفرصة أتيحت أكثر من مرة.
منذ اثنين وثلاثين عاماً، حتى اليوم، هناك ثوابت لا يحركها تبدُّل جيوستراتيجي، ولا انهيار ولا حرب ولا انفجار، تنطبق صفة «الثوابت» على رئيس مجلس النواب نبيه برّي القابض على ناصية السلطة التشريعية منذ تشرين الأول 1992، سلطة الرئيس بري لا تقتصر على «مطرقة» مجلس النواب، بل كلمته مسموعة جداً في مجلس الوزراء، إلى درجة تحسبه شريكاً في السلطة التنفيذية، من دون أن يشاركه أحدٌ، في المقابل، على رأس السلطة التشريعية.
دهاء بري جعل سلطته وسطوته تمتدان إلى الأسلاك القضائية والديبلوماسية وحتى العسكرية، إلى درجة أن مناداته بـ»دولة الرئيس بري» ليست فقط من باب البروتوكول فقط، فالدولة «دولته» بكلّ معنى الكلمة، ومَن يتنكَّر لهذه الحقيقة، يكون إما غافلاً وإما مغفَّلاً.
«الضلعُ» الثاني من الثوابت، هو الأمين العام لـ»حزب الله» السيد حسن نصرالله، الذي لا يمرّ قرارٌ في البلد، منذ مطلع التسعينات أيضاً، إلا بموافقته، وفي مراجعةٍ لكل المحطات المفصلية، يتبيَّن أن «الحزب» كان حاضراً بقوة، ومؤثّراً إلى أقصى درجات التأثير.
لم يكن هناك في الحكومات المتعاقبة «ثلث معطِّل» فحسب، بل «ثنائي معطِّل»، الثنائي الشيعي يعتبر نفسه، إذا لم يكن مشارِكاً في قرار السلطة التنفيذية، عبر التوقيع، فله حقّ الفيتو الذي هو «التعطيل»، من هنا تمسّكه بالتوقيع الثالث الذي استُخدِم في أحيان كثيرة للتعطيل وليس لمجرد الحق في المشاركة، حتى تشكيل المحاكِم كان يتعطَّل إذا لم يقترن بتوقيع وزير المال، الشيعي.
كانت سوريا في لبنان، فكان الرئيس بري والسيد نصرالله. خرجت سوريا من لبنان، فبقي الرئيس بري والسيد نصرالله.
مرَّت أربعة عهود، ولا رئيس يشبه الآخر، من الرئيس الهراوي إلى الرئيس ميشال عون، وما بينهما الرئيسان إميل لحود وميشال سليمان، وبقي الرئيس بري والسيد نصرالله الثابتَيْن.
ثمة مَن يقول إن الطائف الحقيقي اغتيل مع اغتيال الرئيس رينيه معوَّض، وحُكِم البلد من خلال» الطائف السوري». بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان، كان التعويل على عودة الحكم وفق «الطائف الأصلي»، لكن دهاء الثنائي، برّي ونصرالله، مع شيء من الترغيب والترهيب، فتح عهد «الطائف الشيعي» منذ العام 2005 إلى اليوم.
الدولة العميقة، ومعها المنظومة، صمدت على رغم كل الأعاصير السياسية والإقتصادية والعسكرية، لكن كلفتها كانت باهظة جداً: إنهيار البلد. إن إعادة نهوض البلد في ظل المنظومة، خطّان لا يلتقيان، فإمّا التخلّي نهائياً عن خطة إعادة نهوض البلد، وإمّا «تدمير أنفاق» المنظومة ليكون بالإمكان النهوض بالبلد.
المنظومة يناسبها الوضع الراهن لأنها ليست فقط تحكم بل تتحكم بمفاصل السلطات التشريعية والتنفذية والقضائية والمالية والعسكرية، فأيُّ سياسي يعتقد بأنه كان بالإمكان إقرار الموازنة العامة للعام 2024، في مجلس النواب، أو إقرار الزيادات في مجلس الوزراء، أو تعيين رئيس للأركان، أو غيرها من القرارات، لولا موافقة ثنائي الرئيس بري والسيد نصرالله؟ هل تنعقد جلسة الموازنة من دون موافقة بري؟ هل تنعقد أي جلسة لمجلس الوزراء في غياب حزب الله؟
«أنفاق» المنظومة «دولة تحت دولة» وأقوى من الدولة، من المكابرة القول إن هذا الواقع غير موجود، إذا شاء أحدٌ إعادة بناء الدولة أو على الأقل النهوض بالدولة، فعليه التسليم بهذا التشخيص، وإلا سيبقى الوضع على ما هو عليه مئة سنة على الأقل، وهذا الإقرار يتطلّب جرأة والجلوس إلى طاولة تُعيد الإعتبار إلى»الطائف الأصلي»، مع تصحيح شوائبه التي ظهرت على مدى ثلث قرن من الممارسة، وما لم يحصل هذا الأمر، سيُدمَّر البلد بدلاً من أن تُدمَّر «أنفاق» المنظومة والدولة العميقة فيه.