Site icon IMLebanon

«الثنائي الشيعي» للحريري: ضميرنا مرتاح

 

لعل أخطر أنواع التفاوض هي التي تتم في الشارع، كما جرى خلال الأيام الماضية في بيروت. لم يعد شكل الحكومة واسم رئيسها يتحدّدان فقط في الغرف المغلقة وفق التقليد اللبناني الشائع، بل إنّ الشارع الغاضب أصبح شريكاً في صنع القرار، سواء عبر الحراك الشعبي أو الحراك الحزبي.

تتقلب «طبخة البحص» الحكومية منذ أسابيع فوق صفيح سياسي واقتصادي ساخن، يكتوي به اللبنانيون وتلفح حرارته المرتفعة مفاوضات التكليف والتأليف، علماً أن أسوأ ما في المناورات السياسية بالذخيرة الحية انّ الخطأ فيها قاتل وغير قابل للتصحيح، وأنّ تداعياته وخيمة جداً.

 

بين «الرينغ» والكولا وقصقص والضاحية والساحات، ارتسمت معادلة حافة الهاوية وتطايرت الرسائل السياسية في أكثر من اتجاه، الواضحة منها والمشفّرة، في دلالة على أنّ لعبة الاحتكام الى الارض في لبنان متعدّدة الابعاد، وأنّ محترفيها كثر، خصوصاً حين يتعلق الأمر بصوغ توازنات دقيقة، غالباً ما تنضج على وقع الضغوط، بأشكالها المختلفة.

 

وسواء كان تَدحرج الانفعالات في الشارع عفوياً وتلقائياً، كما يؤكد الثنائي الشيعي، أم كان متعمداً ومخططاً له، كما تفترض جهات أخرى، فإنّ الاكيد أنّ القوى المعنية بـ»الهندسة الحكومية» خلعت آخر القفازات الحريرية، وانتقلت الى مرحلة لعب الاوراق على المكشوف، وهو الامر الذي عكسه الرئيس سعد الحريري من خلال «بيان المصارحة» الذي أعلن فيه تمسّكه بقاعدة «ليس أنا، بل أحد آخر لتشكيل الحكومة»، في تعبير صريح عن إخفاق المحاولات المتلاحقة التي بُذلت لإعادة الحياة الى التسوية «الميتة سريرياً»، ما يعني انّ كل الوقت الممتد من تاريخ تقديم استقالته حتى يوم أمس ذهب هدراً وهباءً منثوراً.

 

ويبدو أنّ «سجال الموتوسيكلات» في أزقة بيروت بين مناصري حركة «امل» و«حزب الله» ومناصري تيار «المستقبل»، كان مؤشراً الى حجم الاحتقان السياسي الذي ساد كواليس المداولات الحكومية خلال الساعات التي سبقت الخروج الرسمي للحريري من السباق الى السراي، علماً أنّ من شأن قرار الحريري أن يضع شارعه أمام اختبار جديد، بعدما خرج هو من السلطة وبقي فيها رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب و«حزب الله» و«التيار الوطني الحر»، خلافاً لمزاج البيئة الشعبية لتيار «المستقبل» التي ربطت قبولها ابتعاد الحريري بشعار «كلن يعني كلن».

 

وإذا كانت استقالة الحريري قد وضعت التسوية الشهيرة بينه وبين الرئيس ميشال عون و«التيار الحر» في مهب الريح، فإنّ الكرّ والفرّ في الشوارع المحتقنة أعاد إطلاق الهواجس المذهبية من جحورها، وكاد يهدّد مصير قاعدة «ربط النزاع» الذهبية التي جمعت الحريري بالثنائي الشيعي في السلطة، وهي قاعدة ساهمت كثيراً في تبريد الاحتقان المذهبي خلال السنوات القليلة الماضية وسمحت للطرفين بأن يتعايشا في مؤسسات الدولة تحت مظلة تنظيم الخلاف.

 

يشعر الرئيس نبيه بري و»حزب الله» بأنهما فعلا كل ما يمكن فعله، وحتى أكثر، من أجل إقناع الحريري بالبقاء في رئاسة الحكومة، الى درجة انّ البعض أخذ عليهما مبالغتهما المفرطة في مسايرة رئيس تيار «المستقبل»، و«تَغنيجه» زيادة عن اللزوم.

 

لكنّ الثنائي الشيعي كان يستند في إعطاء الاولوية لرئيس «المستقبل» الى حسابات حساسة تأخذ في الاعتبار عوامل عدة، من بينها انّ الحريري هو الأوسع تمثيلاً للطائفة السنية بموجب نتائج الانتخابات النيابية التي يتمسّك بها كلّ من الحزب والحركة، وانّ استمرار الشراكة معه يحصّن الساحة اللبنانية، ولاسيما الاسلامية، ضد خطر الفتنة المذهبية التي لا تزال جمراً تحت الرماد، إضافة الى اقتناعهما بأنّ بقاءه شخصياً في الحكم كان ضرورياً، حتى يكون شريكاً كاملاً في تحمّل مسؤولية التصدي للأزمة الاقتصادية – المالية التي ساهمت خيارات المدرسة الحريرية، عبر عقود، في الوصول اليها.

 

وضمن هذا السياق، تشير شخصية سياسية كانت متحمسة لعدم الاستغناء عن الحريري في رئاسة الحكومة، الى أنها ارتكزت في مقاربتها على مبدأ أنه لا يصح ان يتهرب الرجل من تحمّل تبعات الانهيار اذا وقع، وأن يقطف النجاح في منعه إذا تحقق من خلال مشاركته في تسمية الرئيس المكلف.

 

أمّا وأن الحريري حسم خياره بالابتعاد، فإن الثنائي الشيعي يعتبر ان ضميره مرتاح بعدما صبر طويلاً عليه حرصاً على مقتضيات المصلحة العليا، ولاسيما بري الذي يشعر بأنّ الرجل خَذله في طريقة مقاربته مجمل الملف الحكومي، من لحظة استقالته المباغتة حتى الامس القريب، على الرغم من كل الرسائل الايجابية التي وجّهها اليه خلال مراحل التفاوض، وصولاً الى إحضار «لبن العصفور» له، قبل أن يطفح كيله في نهاية المطاف ويقرر التخلّي عنه، بعدما تخلّى هو عن دوره في هذه المرحلة الدقيقة، وفق ما توحي به عين التينة.