مثل الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، كمثل بطاقات الهاتف مسبقة الدفع: كلما تكلم خسر من رصيده. خطابه الأخير دليل واضح على فقدان الحجة والمنطق. وهو، أي الخطاب، سيدخل في تاريخ الخطب السياسية كدرس كيف لا ينبغي لقائد سياسي أن يخطب، ويتحدث إلى الرأي العام.
دعك من تبدد السحر الذي رافق صعوده كواحد من أبرز من يتقنون فن المنابر. دعك من طبيعة القضية التي يمثلها اليوم، وهي قضية فئوية، وعنوان اعتداء متمادٍ على مصالح العرب وأمنهم القومي وسلامتهم المجتمعية، بالمقارنة مع ما مثله يومًا من قيمة مقاومة في وجه إسرائيل. لنضع كل ذلك جانبًا. الرجل ما عاد قادرًا على إنتاج فكرة واحدة تتصف بالتماسك والمنطق السياسي، أو جملة واحدة تشي بأنه مقتنع بما يقول.
خطابات نصر الله، كأي خطاب عقائدي وديماغوجي، لطالما اتسمت بتناقضات خفية وعميقة. لكنها مؤخرًا، ومنذ وصول محطة الربيع العربي إلى سوريا، صارت خطابات كمن يعمل «بالقطعة». ينتج نظريةً لبداية الأسبوع لا تصمد حتى نهايته. وكأسوأ فصائل الديماغوجيين، يبني خطابه باستعارات ينتقيها من هنا وهناك من أصول وقشور السياسة، ثم يستعير أو يمارس عكسها على الأرض.
في ما أدلى به مؤخرًا، استوقفني اعتراضه البليغ على مشروع قانون الموازنة السنوية للدفاع في مجلس النواب الأميركي، الذي يتضمن بندًا بشأن تسليح عشائر الأنبار من دون المرور بالحكومة العراقية المركزية، إذا ما فشلت الأخيرة في فعل هذا الأمر نفسه بعدالة وبما يضمن اطمئنان هذه الشريحة من العراقيين إلى أمنها واستقرارها.
اعتراض نصر الله هو امتداد لاعتراض إيراني بطبيعة الحال، يرى في الخطوة الأميركية، إذا ما تم تبنيها في مجلسي النواب والشيوخ الأميركيين، نقطة تحول في العلاقة بين المكون العربي السني في العراق وواشنطن، وفرصة، تقلق طهران، لإنتاج توازن ميداني بقي غائبًا عن العراق منذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003.
لكن نصر الله في اعتراضه بدا مفصولاً تمامًا عن واقعه الشخصي وواقع أنه يرأس ميليشيا مسلحة باتت تعتبر جزءًا لا يتجزأ من مشهد الحروب الأهلية العربية، في لبنان وسوريا والعراق واليمن وغيرها. وهو لم يخفِ يومًا الدعم الإيراني «المعنوي والمادي بكل أشكاله»، على حد قوله مرةً، ولا حاول تلميع صورة ميليشيا حزب الله وارتباطها بأوامر الولي الفقيه الذي «يملك قرار سلمنا وقرار حربنا» بحسب نصر الله أيضًا.
فإذا كان مشروع قرار مجلس النواب الأميركي سيؤدي إلى تقسيم العراق، فلماذا لا يؤدي إلى تقسيمه أيضا تسليح إيران لميليشيات شيعية تشبه ميليشيا حزب الله؟ وكيف لا يعتبر الدعم الإيراني، بالمال والسلاح لأعنف الميليشيات العراقية كعصائب أهل الحق، تجاوزًا للحكومة المركزية، وإضعافًا لهيبة الدولة وبابًا لتقسيم البلاد؟ إلا إذا كان نصر الله يدعونا لاعتبار الميليشيات الشيعية جزءًا من معادلة الدولة في العراق كما يحاول في لبنان جعل ميليشيا حزب الله جزءًا من الدولة وفق معادلة «الجيش والشعب والمقاومة»!
لا تعفى واشنطن وسياساتها، لا سيما القرارات الرئيسية بعد سقوط صدام، كحل الجيش العراقي وقانون اجتثاث البعث، من وصول العراق إلى ما وصل إليه من احتمالات التفتت. وهي تتحمل مسؤولية ضرب إرادة العراقيين الذين منحوا، في انتخابات 2009، التفويض الشعبي «للقائمة العراقية» العابرة للطوائف، برئاسة السياسي الشيعي العربي إياد علاوي، حين اتفقت أميركا مع إيران على أن يشكل نوري المالكي حكومة العراق، رغم حلوله ثانيًا في الانتخابات.
لكن المسؤولية الكبرى تبقى على إيران، التي فعلت كل شيء لتسييد الميليشيات الشيعية على الدولة العراقية، وحرمت الشيعة العرب، كأكثرية ديموغرافية في العراق، من أن يبنوا دولة ناجحة بالتعاون مع بقية المكونات العراقية. بل دفعت إلى أقصى درجات الإقصاء بإبعاد رموز السنة في العملية السياسية، كما حصل في فرض المنفى الاختياري على نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي، فور إتمام الانسحاب الأميركي من العراق.
وحدة العراق، التي يدعي نصر الله الحرص عليها، لا تكون وفق معادلة «المسلحين الشيعة» مقابل «المشلحين السنة»، أي «تشليح» السنة حقوق يفترض حلفاء إيران أنها حصرية لهم، بموجب منطق الغالب والمغلوب، دعك من الحقوق المكتسبة بموجب الدستور.
إذا كانت وحدة العراق لا تقوم إلا وفق معادلة تسييد ميليشيات إيران على بقية العراقيين، فهذا ما لن يقبله جزء كبير من العراقيين.
ليقرأ نصر الله درس الموصل جيدًا، وليحدثنا بعدها عن وحدة العراق.