ها قد صدرت الرزمة الجديدة من العقوبات الأميركية. ولكن خلافاً لكل التوقعات لم تطل شخصيات سياسية كما حصل في المرة الأخيرة حين أدرجت الوزيرين السابقين يوسف فنيانوس وعلي حسن خليل على لوائح “المغضوب عليهم” أميركياً. ولعل بذلك، قد تكون الادارة الفرنسية نجحت في التخفيف من اندفاعة ضغوطات واشنطن باتجاه لبنان لناحية “طبيعة” المستهدفين من العقوبات، في لحظة مصيرية تقف فيها البلاد على مفترق طريق: فإما تكون حكومة انقاذية تلتقط الفرصة الأخيرة المقدمة على طبق باريسي، وإما هي الفوضى الشاملة.
في هذه الأثناء، كان رئيس الحكومة المكلف مصطفى أديب يسير على حافة الاعتذار، مكبّلاً بالسقف الذي أعاد الثنائي الشيعي رسمه كشرط للمشاركة في تغطية الحكومة، والمتمثل باصراره على تسمية الوزراء الشيعة بعد الاحتفاظ بحقيبة المال، وبين تصلّب نادي رؤساء الحكومات السابقين وتمسكهم بمبدأ المداورة… وسط التباس مثير للجدل يحيط بحقيقة الموقف الفرنسي حيال هذا النقاش.
خطوتان قام بهما أمس رئيس الحكومة المكلف ليكسر الجمود الذي يتسلّح به منذ تسميته رئيساً مكلفاً. التقى بداية الخليلين اللذين أبلغاه صراحة أنّ “حزب الله” وحركة “امل” يؤيدان “المبادرة الفرنسية بكامل مندرجاتها كما اتفق عليها في قصر الصنوبر”، في وقت كانت كتلة “الوفاء للمقاومة” تعيد تأكيد المؤكد وأنها “ترفض بشكل قاطع أن يسمي أحد عنها الوزراء الذين سيمثلونها في الحكومة”. ثم زار أديب عصراً رئيس الجمهورية ميشال عون لاطلاعه على الصعوبات التي تعتري التأليف، ويعيد ورقة اعتذاره إلى جيبه بعدما منح نفسه، بدفع فرنسي مزيداً من الوقت في محاولة جديدة لانقاذ التأليف من وحول الخلافات الداخلية.
قمة المفارقات اللبنانية أن تصير المبادرة الفرنسية، التي تليت مندرجاتها أمام رؤساء الكتل النيابية في قصر الصنوبر من جانب الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون، موضع سجال وخلاف بين طهاة الحكومة.
وفق منظور الثنائي الشيعي، لم تكن المداورة بنداً مدرجاً على قائمة المبادرة الفرنسية ولهذا رفض الفريقان الانصياع إلى طرح نزع حقيبة المال منهما، وهذا ما سعيا إلى شرحه أمام المسؤولين الفرنسيين حيث بدا وكأنّ باريس صادقت على ممانعة الثنائي الشيعي وقررت الاستمرار في محاولتها على قاعدة اخراج المداورة من نطاق البحث.
لكن التغريدة التي سجلها مستشار رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، حسين الوجه، قلبت المشهد رأساً على عقب. قال الوجه إنّ “الفرنسيين أبلغوا الجميع أنّ وزير المال يمكنه أن يكون مسلماً أو مسيحياً، شيعياً أو سنياً أو درزياً أو مارونياً أو أرثوذكسياً أو كاثوليكياً أو أرمنياً، لأن هذا الأمر ليس شأن فرنسا، انما شأن اللبنانيين”، لينهي تغريدته على نحو حاسم “إنّ محاولة تزوير الكلام على “توافق مع الجانب الفرنسي على ابقاء المالية للشيعة” توحي زوراً وكأن فرنسا تشكل الحكومة”.
وبالفعل تقول المعلومات إنّ اللقاء الذي جمع السفير الفرنسي برونو فوشيه بمسؤول العلاقات الخارجية في “حزب الله” عمار الموسوي، لم ينته إلى تبني باريس شروط الثنائي الشيعي وإنما كان السفير الفرنسي مستمعاً لا متحدثاً. لكن اصرار باريس على المضي قدماً في مبادرتها هو الذي أشاع جواً من الايجابية أوحى وكأنّ مطالب الثنائي الشيعي، صارت من ثوابت التأليف.
لكن هذا التمهّل لم ينسف الاستنتاج الذي خرج به كُثر نهاية يوم أمس، وهو أنّ التورط الباريسي في الرمال اللبنانية، يترنح تحت وطأة الشروط والشروط المضادة: الثنائي الشيعي يرفض المداورة فيما نادي رؤساء الحكومات السابقين متمسك بها لا بل يرفعها أعضاؤه وفق المطلعين على موقفهم، إلى رأس قائمة أولوياتهم لتكون مدخل التفاهم على الحكومة العتيدة. يقول هولاء إنّ رؤساء الحكومات السابقين التزموا بالمبادرة الفرنسية بمندرجاتها الأربعة: حكومة مصغرة، من الاختصاصيين، غير الحزبيين، وتحترم المداورة. ولذا يقولون إنّ أي خلل في أي بند من المبادرة هو ضرب للاتفاق في صميمه.
هذا يعني أنّ الرباعي السنيّ لن يتراجع عن السقف الذي وضعه لحظة تقديم مصطفى أديب اسماً للتكليف، فيما بات جلياً أنّ رئيس الحكومة السابق سعد الحريري قرر الخروج من خندق تفاهمه مع الثنائي الشيعي لمصلحة محاكاة السعودية في شروطها لاعادة احتضانه. وبالنتيجة، إنّ احتمال حصول تدوير للزوايا يزداد صعوبة.
أكثر من ذلك، فإنّ ما يثير التساؤل هو أنّ الانصياع إلى قواعد الثنائي الشيعي سيفتح الباب أمام مطالب مماثلة للقوى الأخرى لا سيما من الجانب الحليف، ما يعني الدخول في نفق جديد من الصعب الخروج منه.