على الضد من كل الكلام التخفيفي الذي قيل، يعبّر شخص العماد ميشال عون المرشح، عن حدّة الاصطفاف الداخلي الذي نشأ منذ 2005 وحتى اللحظة، ويعبر العماد المنتخب، عن اختلال موازين الاصطفاف في مصلحة حزب الله والفريق السياسي الذي تولى قيادته، ووهبه تماسكه واستمراره. في هذا المجال، الكلام الذي يظل أميناً لمادة صناعته هو: لقد أخذ حزب الله، ومعه الشيعية السياسية، «الثابت» في الجمهورية، أي انتخاب الرئيس الذي سيقيم في قصر بعبدا لمدة ست سنوات، بموجب الدستور والعرف والميثاق… والقوة المتغلِّبة، وأعطى حزب الله مقابل ثابته، «المتحول»، أي تسمية رئيس الحكومة الأولى للعهد الجديد، وذهب إلى تحديد الاسم المسموح بتولّيه هذه المسؤولية، موقتاً، حتى لحظة جردة حسابات سياسية، قريبة أو بعيدة، ودائماً وفق الحسابات السياسية، والمصالح المتدحرجة، لفريق 8 آذار، أي فريق الغلبة الداخلية الذي تقوده شيعية سياسية طافرة، وتقول أنها ظافرة الآن، بشهادة كل الحيثيات الميدانية والسياسية، داخل لبنان وخارجه.
المتحوّل الذي ينتمي إلى السنية السياسية اللبنانية، يمكن استبداله، أي أن المعركة الداخلية بين «القائمقامتين» ستظل مستمرة، وأن مناسبة انتخاب رئيس الجمهورية ليست إلاَّ فصلاً من فصولها. على هذا الصعيد، لن يكون بعيداً من منطق مسار الأمور أن يكون التركيز الهجومي المقبل على اسم سعد الحريري، الرئيس المفترض للحكومة الآتية، ومعنى تركيز الضغط على الاسم فيه كل معاني استهداف «الرمزية» التي يتعامل معها اللبنانيون حتى اليوم، بصفتها التعبير الأكثف عن معنى قوة السنية السياسية وحضورها في التوليفة اللبنانية، التي تدير الشؤون العامة، وترعى توازناتها، وتقف حائلاً ضد اختلالها، أي ضد الانتقاص من موقع السنية السياسية ونفوذها اللذين تكرسا نصاً وممارسة بعد اتفاق الطائف المعروف. هدف استهداف «الاسم الحريري» يوحي برغبة في إطاحة الإرث والوارث، إذ لا يبدو بعيداً من تفكير «المخطط الاستراتيجي للهيمنة»، أنه بعد إزالة الأب جسدياً، من الضروري استكمال إزالته رمزياً، ومن لزوم استتباب السيطرة إزالته كإرث «زعاماتي» تجتمع حوله الكتلة الأهلية المناوئة، في الوقت الذي بات مطلوباً فيه تضئيل معنى كل الزعامات ورمزيتها وقدرتها وفاعليتها.
على هذه الخلفية، سيكون الرئيس «القوي» وفق أنصاره، أي العماد ميشال عون، معنياً بإدارة الصراع ضد الرئيس الذي كان قوياً، والذي يجب أن تنتزع منه أسباب قوته الباقية. كيف يفعل رئيس الجمهورية الجديد ذلك؟ بالمشاركة المباشرة في الصراع، أم بالسماح بحصوله ومراقبة تطوراته ونتائجه؟ الأمران يتدخل فيهما فريق الهجوم وفريق الدفاع، الأول من حيث تقدير ما هو متاح له من وسائط ضغط وفرض، والثاني من حيث تقدير ما هو متوافر له من وسائل «شل وإبطال» للقدرة الهجومية التي تستهدفه. هذا يعني، أن الأرض غير ممهدة تماماً أمام الطامحين لكي يمسكوا بكامل رقاب المشهد السياسي الداخلي، وأن استجماع الطاقة الدفاعية وحسن توظيفها أمر ضروري، لمنع ذهاب الطموح الإلغائي إلى نهاية غايته، وللحد من تداعياته الخطرة على مجموع الكيانية اللبنانية وتوازناتها. ماذا يُفهم من ذلك؟ ليس أقل من القول أن الجموح «الانتصاري» يشكل بوابة دخول إلى ميدان اصطراع مستدام، وهذا الأخير سيكون مفتوحاً على سلوك ممرات متعددة، منها السلمي، في حالة الإدارة الداخلية اللينة، ومنها ما يجمع بين السلمية وغيرها، في حالة الإدارة الفظة العارية. كخلاصة، لن يجد اللبنانيون ذواتهم أمام انفراج داخلي تلقائي، فهذا تلزمه نوايا حسنة لا دلائل على توافرها، وتلزمه أيضاً تسوية تحتمل الاختلال الخفيف، لا كلام حول بنودها، ولا يخفى، تكراراً، أن انتخاب الرئيس الجديد ما زال دون مرتبة وصفه بالتسوية التي من شروطها وضوحها، من الكلمة الأولى حتى نقطة الختام.
لكن، ولأنه لا مكان في الواقع وفي السياسة لجملة «لا جديد تحت الشمس»، تظل الحياة اللبنانية بكل مكوناتها وتطوراتها في موقع مواكبة الجديد الملموس، لتبني على كل جديدٍ جديداً… وعسى أن يكون الجديد فرحاً افتقده اللبنانيون منذ زمنٍ طويل.