Site icon IMLebanon

الشيعة وفلسطين

 

في مقال كتبه الأب يواكيم مبارك في جريدة «النهار» بتاريخ 14/12/1974 تحت عنوان «حركة الإمام موسى الصدر بين الشيعية واللبنانية»، يقول: «… أما عنصر تفاؤلنا الثاني، فهو تقارب الحركة التي نحن في صددها وتجانسها وتيارها بالمأساة التي ينبع منها كل جديد في العالم العربي، عنيت الثورة الفلسطينية. فقد شاءت الرحمة الربانية أن يرتبط لبنان من جنوبه بالشقيقة المعذبة فلسطين. وكان إرتباطه الجنوبي هذا بوساطة الشيعة التي وجدت في الجنوب معقلها ومحنتها».

 

لعل هذه المقاربة الجيو- سياسية وفق توصيف علم السياسة الحديث التي فنّدها الأب مبارك منذ 50 عاماً تختصر الرؤية التصالحية التي يعتمدها الفاهمون من الشيعة في وصفهم لأنفسهم ولدورهم كلبنانيين شيعة وليس كشيعة متلبننين أو يتوجب عليهم أن يتلبننوا كما يحلو للبعض أن يتهمهم أو أن يتهم بعضهم، كحالة «حزب الله»، كي ينتقص من إنتمائهم.

 

وبإسقاط مباشر على الواقع الراهن، فإنّ التماهي بالنسبة للشيعة بين الإنتماء الوطني الخالص والصافي وبين الأدوار المفترضة للمكون اللبناني الشيعي، لا يمكن أن يكتمل من دون تحمّل المسؤولية التاريخية في التصدي للكيان الإسرائيلي المصطنع على أرض فلسطين، هذه المسؤولية التي لم يختاروها بفعل إرادتهم المحضة وإنما كانت تدبيراً إلهياً خصهم به الله «وكرمهم بأن جعلهم رأس حربة في مواجهة هذا الكيان» كما كان يقول الشهيد القائد داوود داوود؟

 

هذا في المفهوم العقائدي، أما في البعد العملي الذي جَسَّد ذلك المفهوم فقد نجح اللبنانيون الشيعة في إلحاق الهزيمة بإسرائيل في محطات عديدة، كذلك تمكنوا من تحرير معظم الأراضي اللبنانية التي يسكنوها والتي يسكنها غيرهم من المكونات اللبنانية الأخرى. بل الأهم أنهم إستطاعوا أن يُسقِطوا خلال تلك المحطات الكثير من مشاريع إنهاء القضية الفلسطينية خصوصاً في العامين 1982 و2006، أو حتى إستفراد الإنتفاضات الفلسطينية مدنية كانت أم عسكرية.

 

مكامن الخلل

 

إذاً أين الخلل إذا كانت عناصر تكوين شخصيتهم العقائدية وإنجازاتهم العملية مكتملة؟

 

إنّ قراءة المسار التاريخي للحركة الفكرية التي شكلت الأرضية الصلبة لبناء هذه الشخصية كما تحقيق تلك الإنجازات يقودنا إلى خلاصة قد لا تعجب الكثير من مدّعي زعامة الواقع السياسي الشيعي، وعلى أمل أن يقف عندها ويتفكر فيها المسؤولون الفعليون عن حفظ الشيعة في لبنان. وتقول هذه الخلاصة إنّه منذ غياب الإمام المؤسس السيد موسى الصدر لم يكلّف المتزعمون ولا المسؤولون الشيعة أنفسهم إعادة تأسيس البنية الفكرية السياسية للمشروع الشيعي والتي يفترض أن تأخذ بعين الإعتبار المتغيّرات السياسية والوطنية وحتى الإقليمية الدولية، بحيث يؤمّنون لهذا المشروع الحصانة الداخلية والخارجية التي تقيهم رياح الحملات الإسرائيلية – الأميركية والتي تحفظ إنجازاتهم.

 

لذلك وبعد ما يزيد عن عقود ثلاثة من أداء الحالتين السياسيتين (حركة «أمل» و»حزب الله») اللتين مثلتا معظم المكون اللبناني الشيعي في السلطة، وفي ما عدا تراكم قوة «حزب الله» على المستوى العسكري، نجد أنّ الأطروحة الخطابية السياسية والإعلامية والعملية لهاتين الحالتين لم تلامسا جوهر الدور الشيعي في لبنان، كما أنهما لم يقدما رؤية واضحة ومتكاملة حول سبل مشاركة الشيعة في إخراج لبنان من أزماته «التعايشية» والسياسية والاقتصادية، حيث فضلت هاتان الحالتان إعتماد مبدأ «المياومة» في مقاربة الشأن العام اللبناني بكافة مستوياته مستفيدتين من غياب مشروع محلي أو خارجي قائد لإنقاذ لبنان، أو على الأقل إعادة مسار بناء الدولة ومؤسساتها فيه إلى سكته الصحيحة. وبالتالي صارت «المياومة» هي الوسيلة البديلة عن النهج، ولذلك إستعاض ما إصطُلح على تسميته «الثنائي الشيعي» عن مشاركته البناءة في الحكم بلعب دور الشريك المضارب في السلطة.

 

مع الإشارة إلى أنّ الخطاب التأسيسي للإمام الصدر في الموضوع الإسرائيلي تجاوز في جرأته وعمقه وأبعاده المستقبلية كافة المواقف الإعلامية والسياسية التي كان وما زال يعبر عنها «الثنائي الشيعي». إذ يقول في كلمة ألقاها بتاريخ 7/10/1974: «إن أسطورة العدو تحطمت وشعورنا بأن إسرائيل قد فرضت علينا تبدّل، حتى يمكننا أن نقول اليوم غير ما يقوله القادة السياسيون المرتبطون بالقرارات الدولية والملتزمون عالمياً بأنّ المهم إزالة آثار العدوان وإعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. نحن كشعب بإمكاننا أن نقول واثقين من المستقبل إنّه يجب إزالة إسرائيل من الوجود، فإسرائيل بهيئتها الحاضرة عنصر عدواني ووجودها يخالف المسيرة الإنسانية. فلذلك لا مُقام لها معنا ولا لها بيننا مكان، بل إن الأرض فلسطينية عربية إسلامية، مسيحية، يهودية خالصة». وبالتالي فإن إتهام أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله بالتطرف أو المبالغة في خطابه عندما يتحدث عن الكيان الإسرائيلي في غير محله، ناهيك عن ربط هذا الخطاب بالإيديولوجيا الإيرانية!

 

أين النصاب الوطني الداعم؟

 

غير أنّ الأهم أن الإمام الصدر سعى ونجح في كثير من المحطات خلال مسيرته الوطنية والإيمانية في تأمين نصاب وطني كبير وعربي ودولي أيضاً يدعم أطروحته. في حين لم يَسعَ الثنائي المعروف إلى تركيب مثل هذا النصاب بل إكتفى بصياغة تفاهمات محدودة الأجل أو ذهب إلى مشاركات ظرفية للبحث في ما سمي «الإستراتيجية الدفاعية» أو اعتبر أن «الفيتو» السياسي الذي يمكن أن يرفعه في وجه المكونات السياسية الطائفية الأخرى من خلال مشاركته في السلطة، كافٍ لحماية ظهر المقاومة!

 

اليوم مع غزة تواجه قضية فلسطين أكبر أزمة وجودية منذ النكبة الأولى العام 1948، ما يعني وبواقعية أنّ مراكمة التحضير لليوم الموعود بإزالة إسرائيل من الوجود صار يحتاج إلى تقييم جديد مبني على الوقائع التي ستفرضها تداعيات العدوان على غزة، وبالأخص الآثار السلبية التي ستترتب على إمكانيات نهوض الفلسطينيين بعد هذه الوحشية الإسرائيلية الترهيبية. لذلك أعتقد أنّ شعار «على طريق القدس» الذي أطلقه السيد نصرالله على شهداء المقاومة في مواجهة العدوان الإسرائيلي على لبنان، كان يهدف إلى تثبيت الصلة التاريخية القائمة بين الشيعة وفلسطين مهما تبدلت الظروف الميدانية والسياسية. وهذا يطرح السؤال الأهم المتعلق بكيفية المواءمة بين هذه المهمة «الإلهية» للشيعة والتي لا يمكنهم التخلي عنها، وبين ضرورة إندماجهم بشفافية ومن دون مواربة في مشروع التسوية الداخلية التي من المفترض أن تقوم على فكرة إعادة بناء الدولة.

 

وهذا يستوجب توفر شرطين أساسيين وهما: الأول، أن يبادر «حزب الله» بصفته المقاومة إلى وضع أطروحته حول سبل حماية لبنان أولاً على طاولة النقاش الوطني المفتوح، ومن ثم فهمه لمسألة الترابط بين لبنان وفلسطين، بعيداً عن البحث في «الإستراتيجية الدفاعية» التي صارت شعاراً ممجوجاً يتم إستعماله للمزايدة بين الأطراف السياسية الداخلية. أمّا الشرط الثاني فيتمثل في حتمية خروج متزعّمي الشيعة في السلطة من منظومة الفاسدين والمفسدين التي أبادت المجتمع اللبناني وقادت الدولة إلى الإنهيار، كذلك أسقطت جدار المناعة الداخلية وبالتالي كشفت ظهر المقاومة بدل أن تحميه!