قبل أن يُدَندن وزير الإعلام «أنا صار لازم ودعكن»، كانت الحكومة تسعى حتى الرمق الأخير إلى تنفيذ وعدها بـ«استعادة الثقة». لكن الستارة أسدلت، في النهاية، على فشل متراكم، انتهى ببقعة ضوء تمثلت بوضع معمل دير عمار على سكة الممكن، بعد سنوات من المماطلة، وكذلك الرضوخ لمرور مناقصة البواخر عبر إدارة المناقصات حصراً .
جلسة تاريخية عقدها مجلس الوزراء، أمس. تاريخية لأنه لم يسبق أن حشرت جلسة وداعية بجدول أعمال مليء ببنود أساسية، يحتاج كل منها إلى جلسة مستقلة ربما. وتاريخية لأن حكومة استعادة الثقة لم تنجح ولو ليوم واحد في استعادة ثقة الناس، بل وصفت بأنها أكثر الحكومات جشعاً.
الأهم أن ما كان متعذراً اتخاذ القرار في شأنه خلال أشهر طويلة، وجد طريقه إلى الحل في جلسة حكومية عجائيبة اتخذت القرار بإعادة إحياء الحلول الدائمة للكهرباء، بالتوازي مع تثبيت الخيارات الموقتة المتمثلة بشراء الطاقة من البواخر.
ولأن التنافس السياسي على أشده، لم تكد ترفع الجلسة، حتى سارع وزراء التيار الوطني الحر إلى إعلان «الانتصار». لماذا، لأنه على ما غرّد الوزير جبران باسيل، فقد «غطت الانتخابات وطارت المزايدات ومتل ما قلناكم رجعوا مشيوا بالبواخر وبدير عمار والغاز بعد الانتخابات». قبله، كان الوزير سيزار أبي خليل يعلن أن «كل المناورات السابقة كان هدفها عدم تأمين الكهرباء قبل الانتخابات».
في الواقع، الطريق الذي سلكه ملف تأمين طاقة إضافية بقدرة 850 ميغاوط أتى معاكساً للاقتراحات التي تضمنها كتاب وزير الطاقة إلى مجلس الوزراء، فالوزير أبي خليل كان اقترح أن يبادر مجلس الوزراء إلى فض عروض البواخر التي سبق أن رفضت إدارة المناقصات السير بها والتفاوض مع العارضين، وصولاً إلى توقيع العقد مع العارض الأنسب، أو تكليف مؤسسة كهرباء لبنان إجراء استدراج عروض جديد وفقاً لأنظمتها ولدفتر شروط جديد.
لم يكن بين اقتراحات أبي خليل أي اقتراح يشير إلى إجراء مناقصة جديدة عبر إدارة المناقصات، على ما قرر مجلس الوزراء أمس، وبالتالي، لم يذهب كل ما حكي منذ عام ونصف أدراج الرياح كما قال، بل على العكس، فالحل الذي أقر جاء مطابقاً لمطالبات الجميع بالعودة إلى إدارة المناقصات مع دفتر شروط يراعي ملاحظاتها، وأبرزها ما يتعلق بمدة التنفيذ (زيدت من 90/180 يوماً إلى تسعة أشهر)، وكذلك، ما يتعلق بمهلة تقديم العروض التي زيدت من ثلاثة أسابيع إلى عشرة أسابيع.
لو قبل التيار الوطني الحر وتيار المستقبل بهذا الاقتراح منذ عام تقريباً لكانت البواخر صارت على الساحل اللبناني أو ربما بنيت معامل على البر، لكن الطرفين فضلا شن حملة على مدير إدارة المناقصات جان العلية، وصولاً إلى استدعائه من قبل رئيس الحكومة ودعوته إلى السير بالمناقصة مع دفتر شروط لا يؤمّن الشفافية ولا المساواة بين العارضين، فكانت النتيجة رفض الإدارة السير بالتلزيم لبقاء عارض وحيد.
في رد غير مباشر على باسيل وأبي خليل، قال وزير الصحة غسان حاصباني إن موقف القوات اللبنانية ثابت قبل الانتخابات وبعدها من إعادة مناقصة الكهرباء الموقتة إلى دائرة المناقصات والذي تحقق اليوم (أمس)، كما تم توسيع دفتر شروط لإتاحة المجال لحلول متعددة وعدم حصر الحل بالبواخر». كذلك كان لوزير المال علي حسن خليل موقف أوضح فيه أنه «في البواخر كما كنا بقينا رافضين الصفقة وما يدور حولها، ولنا الشرف أننا صوتنا ضدها».
وزير الطاقة أعلن في مؤتمره الصحافي أنه وافق على خيار العودة إلى إدارة المناقصات، لكنه لم يقترحه لأنه مخالف للقانون. هذه إشكالية أخرى يكررها وزير الطاقة، الذي يعتبر أن إجراء المناقصة مسؤولية مؤسسة كهرباء لبنان، لا إدارة المناقصات. علماً أن نظام استثمار مؤسسة كهرباء لبنان لا يجيز لها توزيع غير الطاقة المنتجة في معاملها أو في معامل تملك امتيازاً لإنتاج الطاقة، وبالتالي فإن استدراج العروض سوف يكون مخالفاً حكماً لأنظمتها، فضلاً عن أن المادة 79 من النظام المالي للمؤسسة تحصر استدراجات العروض بصفقات «اللوازم والأشغال والخدمات». وهي لا تشمل إنتاج الطاقة من البواخر.
وزير الطاقة قدم خيارين لحل مسألة البواخر… فأقر مجلس الوزراء خياراً ثالثاً
لكن مع افتراض أن إجراء المناقصة من صلاحيات كهرباء لبنان على ما يؤكد وزير الطاقة، فلماذا وضعت الوزارة، وتحديداً مكتب الوزير، دفتر الشروط لا المؤسسة، ولماذا لم يسمع أحد رأي المؤسسة بالمناقصة أو بدفتر الشروط؟ ثم، إن إجراء المؤسسة لأي مناقصة أو التزام يلزمها أن تدفع من أموالها لا من الخزينة العامة. وإذا كان مصدر الأموال هو الذي جعل الوزارة تتولى المهمة نيابة عن المؤسسة، فهذا له تداعياته، وأبرزها الالتزام بموجبات قانون المحاسبة العمومية وإجراء المناقصة في إدارة المناقصات.
في الجلسة، تأكيد على ضرورة الأخذ بملاحظات إدارة المناقصات، وأبرزها فترة التنفيذ. في ذلك ثغرة سبق أن أطلت برأسها في أكثر من مناسبة: التقييم لا يجب أن يعتمد السعر الأقل والمدة الأقصر، لأن ذلك سيعني المس مرة جديدة بالمساواة بين العارضين، خصوصاً أن الجميع يدرك أن الشركة التركية هي الأكثر جاهزية. وعليه، يؤكد مصدر متابع أن الأولوية يجب أن تكون للسعر الأدنى، بغض النظر عن مدة التنفيذ طالما أنها تندرج في إطار المهلة المعطاة.
ليست البواخر الجديدة هي كل الحكاية. كان المجلس قد أقر، في الجلسة السابقة، التمديد للباخرتين الحاليتين لسنة واحدة، خلافاً لاقتراح الوزير التمديد لهما لثلاث سنوات قابلة للتجديد سنتين، طرح الموضوع على النقاش مجدداً. وبعدما كان المجلس قد طلب من أبي خليل التفاوض مع الشركة لتخفيض سعر الطاقة المشتراة، عاد الأخير بالنتيجة: وافقت «كارادينيز» على تخفيض طفيف لسعر الكيلواط/ ساعة (من 5.85 سنت إلى 5.6)، على رغم أنها استرجعت مردود الاستثمار خلال السنوات الخمس. لكن سرعان ما بدا أن العرض مقدم ليُرفض، إذ حمل الوزير اقتراحاً آخر من الشركة يقضي بالموافقة على تخفيض السعر إلى 4.95 سنت في حال تمديد العقد لثلاث سنوات. كذلك تضمن الاقتراح عرضاً مفاجئاً يقضي بتزويد لبنان بباخرة ثالثة بقدرة 200 ميغاواط مجاناً.
لم يكن أمام المجلس سوى الموافقة، على رغم يقين أكثر من وزير أن الغاية من العرض هي تكريس أمر واقع طويل الأمد. ولذلك اشترط وضع بند يسمح للدولة بفسخ العقد ساعة تشاء، من دون بند جزائي، على أن تبلّغ الشركة رسمياً بقرار فسخ العقد قبل ستة أشهر. كذلك تقرر أنه في حال رفض الشركة للعرض، تتم العودة إلى قرار التمديد لسنة واحدة فقط. هذا القرار جاء على خلفية التذكير أن البواخر هي حلول موقتة، تهدف إلى سد العجز إلى حين انطلاق عجلة الحلول الدائمة، أي المعامل الثابتة. أول الغيث في هذا السياق، إقرار تحويل عقد مشروع دير عمار إلى BOT (اقتراح الحريري) لمدة عشرين سنة، على أن يكون سعر شراء الطاقة 2.95 سنت، لكن مع التأكيد على الشروط الفنية التي تضمنها دفتر الشروط السابق.