يترحّم اللبنانيون على زمن كانوا يجيبون به على كل دعوة إلى مشوار مفاجئ، بعبارة «خليني حط شي بإجري وبجي». فقد أصبح الـ«شي» مكلفاً للغاية، حتى بات البعض يخشى استهلاك حذائه لعدم القدرة على شراء غيره. الأحذية المستوردة، حتى العادي منها، أصبحت تكلف مئات آلاف الليرات، والمحلية الصنع غير قادرة على تلبية حاجة السوق بعدما ضُربت صناعة الأحذية التي كانت أحد أبرز القطاعات الإنتاجية ومن أكثرها مساهمة في الاقتصاد الوطني. في الانتظار، يبقى الحلّ بالعودة إلى «الكندرجي» لـ«تزبيط» ما يمكن «تزبيطه»
محّلات بيع الأحذية التي كانت مقصد أبناء الطبقة الوسطى ومحدودي الدخل لم يعُد في مقدور هؤلاء الوصول إليها، ليس لأن بضائعها «ارتقت» لتوائم ذائقة الميسورين وقدراتهم المادية، وإنما لأنه، بعد انهيار سعرف صرف الليرة والارتفاع الخيالي في أسعار البضائع والسلع المستوردة، بات سعر الـ«مشاية» الرجالية 180 ألف ليرة في بعض المتاجر، وهو مبلغ كان يكفي قبل عام لشراء أغلى حذاء رسمي من المتجر نفسه.
واقع، رغم مرارته، كان يفترض أن يكون مثالياً للصناعة المحليّة لتملأ الفراغ، لولا أنّها طُعنت من بيت أبيها، بسبب السياسات الاقتصادية التي اتُّبعت منذ ما بعد انتهاء الحرب، والتي أهملت الصناعة لصالح الاستيراد المتفلّت من الضوابط، بالتزامن مع موجات تهريب ضخمة وتهرب ضريبي، ما أدّى إلى قضاء ممنهج وشبه كامل على قطاع لطالما شكل أحد مفاخر الصناعة اللبنانية حول العالم.
يلفت وضاح شامي، الأمين العام لتجمع صناعيي الضاحية ورئيس هيئة نقابة صناعيي الأحذية، إلى أن «عدد المصانع الكبيرة المتخصّصة في صناعة الأحذية لا يزيد اليوم على خمسة بعدما كان في التسعينيات يتخطى الـ 500». أما المصانع الصغيرة والورش، المرخّص منها وغير المرخص، فقد «بلغ عددها منتصف التسعينيات 1200 مصنع وورشة، لم يبقَ منها اليوم سوى 120 فقط»، بحسب رئيس نقابة عمال صناعة الأحذية والجلود رضا سعد، مشيراً إلى أن هذه الصناعة عرفت ذروة مجدها أوائل السبعينيات عندما «كانت تساهم بحوالى 7% من الناتج المحلي الإجمالي». وبعدما كان يعتاش من هذه الصناعة «أكثر من 40 ألف لبناني، انخفض العدد اليوم إلى أقل من 3 آلاف».
انهيار مفهوم ومبرّر إذا ما تعمّقنا في أرقام استيراد الأحذية خلال السنوات الماضية (من دون احتساب حجم التهريب وما أُدخل بطرق احتيالية عبر المرفأ). يقول الباحث في الشؤون الإحصائية عباس طفيلي إن لبنان «استورد بين عامي 2010 و2020 أحذية بقيمة مليار و347 مليون دولار، وصدّر ما قيمته 162 مليون دولار». إلّا أنّ اللافت هو الانخفاض الحاد في حجم استيراد الأحذية بين العام الماضي والسنة الجارية، «من 105 ملايين دولار إلى 27 مليوناً»، وهو فارق كان يمكن للصناعة المحليّة تعويضه لو لم تجرِ تصفيتها طوال عقود، خصوصاً أن القدرة الإنتاجية للمصانع المحليّة بلغت حوالى «10 ملايين حذاء منتصف التسعينيات».
بين 2010 و2020 استورد لبنان أحذية بقيمة مليار و347 مليون دولار
«تكلف صناعة سكربينة جلد أصلي 100% من الداخل والخارج مع كعب 8 سم، من يد عاملة وجلود وكاوتشوك وضبان ومسامير، 48 دولاراً، وكنا نبيعها بحوالى 150 ألف ليرة. اليوم سعرها 350 ألف ليرة، فمن سيشتري؟»، يقول شارل سماحة، وهو صاحب مصنع سابق ومالك متجر حالي، مؤكداً أن «مبيعاتنا في الشهر لا تتعدى الـ 200 ألف ليرة حالياً. ارتفاع الكلفة ما دامت الصناعة محليّة يعيده سماحة إلى أن «مصانع الجلود والكعوب والكاوتشوك في لبنان تسعّر وفق سعر صرف الدولار في السوق الموازية».
فادي مروة، وهو صاحب مصنع للأحذية، يشير إلى أن «سعر الحذاء المصنّع محلياً قريب من سعر الحذاء التركي، لكن الأخير أرخص بسبب التهريب. ورغم أن جودة الحذاء اللبناني تفوق بكثير أغلب الأحذية التي تدخل إلى لبنان، تصعب علينا المنافسة في ظلّ هذا الفلتان. فعلى سبيل المثال، تصنع المصانع الصغيرة في لبنان سنوياً ما يوازي ثلاثة مستوعبات شحن من الأحذية، فيما يُدخل شخص واحد إلى السوق أكثر من 50 مستوعباً بشكل غير شرعي». يؤكّد مروة أنه «كانت أمامنا فرصة للتوسّع في السوق الخليجية، وهي السوق الأبرز لصادراتنا من الأحذية، خصوصاً بعد الخلافات الخليجية – التركية ووقف دول الخليج استيراد البضائع التركية. لكن ما حصل أنه جرى استيراد أحذية من تركيا إلى لبنان، وأُعيد تصديرها إلى الخليج على أنها مصنّعة في لبنان أو أوروبا…».
وفي هذا السياق، يشرح شامي أحد أوجه الاحتيال الذي ساهم في ضرب هذه الصناعة. فبعدما صدر قرار عام 2004 يقضي بفرض «رسم نوعي على الأحذية المستوردة من الخارج، قيمته 3 دولارات على جوز الحذاء الواطي، أي تحت الكاحل، و5 دولارات للحذاء فوق الكاحل، قام التجار بإدخال الأحذية مفكّكة للتهرب من هذا الرسم». كيف؟ «أدخلوا مستوعبات نعول ومستوعبات أحذية من دون نعول على أساس أنها مواد أولية، وقاموا بتجميعها في لبنان وتصديرها إلى الخارج على أنها صناعة لبنانية، ما ضرب سمعة صناعة الأحذية اللبنانية».