إذا كان التفريع السابق في كليات الجامعة اللبنانية خطأ، فالتوسع فيه خطيئة. هذا ما يقوله أهل الجامعة الذين يعتقدون أن الدولة لا تعيش هم مؤسستهم وليست لديها رؤية مدروسة ومنظمة ومنهجية لوظيفتها، وأي ادعاء بأنّ الجامعة تسهم لوحدها في الانماء التربوي هو، برأيهم، ادعاء غير علمي
الجامعة اللبنانية نموذج فريد للجامعات. هي الجامعة الوطنية التي تطل على المجتمع بمبانيها المتفرقة، المنتشرة وحتى المتصدّعة، وقاعاتها المكتظة، وملاعبها الضيقة وأحياناً غير الموجودة، ومختبراتها غير المجهزة، وبفروعها المتقابلة بما هي امتداد للمعازل الطائفية والمذهبية. هي، بخصائصها اللبنانية، جامعة الفروع واللاوحدة.
وسط هذا الواقع المأزوم، يأتي القرار الأخير لمجلس الوزراء بفتح فروع جديدة في عكار وبعلبك ــــ الهرمل وكسروان ــــ جبيل مجتزأً ومعزولاً عن أي تصور لوضع قضية الجامعة ومشاكلها الكثيرة على بساط البحث. ولا يبدو أنه يندرج ايضاً ضمن خطة نهوض بالجامعة الرسمية الوحيدة، وإلاّ لِم لَم تبصر هذه الخطة النور بعد؟ هل هي سر من أسرار الدولة؟ إذا كان التفريع مسألة مفهومة في الحرب لتعذر الانتقال من منطقة إلى أخرى، فما هي رؤية السلطة السياسية للجامعة ودورها ووظيفتها في السلم؟
هذه الأسئلة تطرحها اليوم مصادر في مجلس الجامعة جازمةً بأننا «لم نقارب يوماً أي دراسات جدوى حقيقية للاختصاصات في مناطق التفريع». منطق النقاش الذي سبق قرار المجلس، في آذار الماضي، كان، بحسب المصادر، عبارة عن تقدير عشوائي لا علمي يتصل بالاحتياجات الأكاديمية والاجتماعية لهذه الفروع، وما حصل أن البعض أراد، على الطريقة اللبنانية، أن يطلب فرعاً لمنطقته، وكانت فحوى المداولات بالحرف «نحنا مش ضد يكون هناك فرع في عكار، لكن نريد فرعاً في بعلبك أيضاً وهكذا».
بغياب الدراسات، تصب الخطوة، بحسب المصادر، في خانة تقديم جوائز ترضية لقوى سياسية تريد أن تضخ موظفين وأساتذة متعاقدين بالساعة، وأن تحوّل الجامعة إلى مركز انتفاع لجميع القوى من دون استثناء، ما يناقض المصلحة البعيدة لطلاب الجامعة. لا تعارض المصادر اللامركزية الإنمائية، لكن «ما نريده أن يحصل متخرجو الجامعة على فرص عمل ملائمة وألا يكونوا أرقاماً إضافية في سوق البطالة».
الباحث في معهد العلوم الاجتماعية محب شانه ساز يرى أن التركيز على حاجة الطلاب لتثبيتهم في مناطقهم وصعوبة انتقالهم إلى زحلة وطرابلس صحيح من الناحية النظرية، «لكن لم نسمع أن باحثاً في الجامعة كلّف إعداد دراسة حول هذا الموضوع، وخصوصاً أن معهدنا مخوّل أكثر من غيره بدراسات لها علاقة بالديموغرافيا وغيرها».
بغياب المايسترو أو وزارة التصميم، على حد تعبير شانه ساز، يصبح التفريع عبارة عن عشوائيات وحسابات بعيدة عن هدف الجامعة كوحدة انتاجية بالدرجة الأولى، فإذا كانت الجامعة غير منتجة في الأساس، لماذا انهاك ميزانيتها وتشتيت قدراتها المالية؟
وحدة الجامعة كأساس للبحث
بحسب أحد الاساتذة الباحثين في الجامعة الذي رفض الافصاح عن اسمه، ما جرى في الفترة السابقة من استحداث فروع (أو شعب) لكلية العلوم في بعض المناطق اللبنانية (عكار، عمشيت، بعلبك) أتى استمراراً لتفتيت الجامعة طالما ان الاجراءات لم تندرج في إطار خطة واضحة الاهداف. يقول: «علينا أن نتصارح من موقع الدفاع عن وحدة الجامعة ونتناقش في الاشكال التي تخدم هذه الوحدة من دون المساس بالانجازات الايجابية للتفريع. إذاً، يجب الانطلاق من فكرة وحدة الجامعة كأساس للبحث، وليس على قاعدة الوحدة الشكلية للأطر الادارية. وهذه الوظيفة تتحقق في المجمع الجامعي الذي يضم الكليات المختلفة. عندئذٍ يتولى على سبيل المثال قسم الرياضيات في كلية العلوم تأمين تدريس مادة الرياضيات لطلاب كلية الهندسة بما يتناسب وحاجة اختصاص الهندسة للعلوم الرياضية، وعليه لا تكون كلية الهندسة بحاجة لتفريغ أستاذ لتدريس الرياضيات، بينما بالمقابل يتولى قسم الهندسة المدنية في كلية الهندسة تدريس مادة البيئة مثلاً لطلاب كلية العلوم. وفي هذا الشكل من التبادل الوظيفي يمكن جمع أهل الاختصاص في أقسام علمية تكون قادرة في الظروف اللبنانية على إطلاق البحث العلمي على قاعدة توحيد الباحثين من الاختصاص الواحد. أضف الى ذلك، ان دمج الكليات في المجمعات الجامعية يؤدي الى استخدام أفضل للتجهيزات المخبرية وإلى توظيف افضل للموارد المالية».
من هذه المقاربة الاكاديمية، يقترح الباحث انشاء مجمعات جامعية في المناطق المختلفة، فتندمج كليات الطب والصحة العامة والصيدلة في مجمع، والعلوم والهندسة في مجمع آخر، والحقوق والعلوم السياسية والاقتصادية وإدارة الاعمال في مجمع، والاداب والعلوم الاجتماعية في مجمع، والفنون والسياحة في مجمع، على أن توزع هذه المجمعات جغرافياً في مناطق بيروت وجبل لبنان، مثلاً: الشويفات، الفنار، المتن، وبيروت. أما كلية الزراعة فيكون موقعها الاساسي في البقاع. وهذا الدمج يفترض إنشاء المجمعات الجامعية مع المباني السكنية الخاصة بالطلاب، وتفعيل نظام المنح الدراسية للطلاب المتفوقين، وتأمين الدعم الخاص بالمطاعم الطلابية، وغيرها من التسهيلات. إن دمج هذه الكليات المتقاربة في الاختصاص لتسهيل التبادل الوظيفي والبحثي بينها هو دمج مكاني وليس دمجاً إدارياً، بحيث تبقى الهيكلية الادارية المعمول بها حالياً هي القائمة، على قاعدة الوحدة الاكاديمية والادارية للفروع المنتشرة في المناطق المختلفة ضمن الكلية الواحدة. أي ان تكون الكلية هي الوحدة الاساس في هيكل الجامعة، مع العمل على تطبيق مبادىء موحدة في ما يتعلق بنظام امتحانات الدخول ونظام التقييم ونظام الوحدات وفق روحية نظام LMD.
دكاكين التشعيب
أساتذة وجدوا في التفريع الجديد حلقة في مسلسل تقسيم الجامعة الوطنية على قياس المناطق والطوائف، بدليل أن تجربة التفريع والتشعيب في الفترة السابقة لم تكن مشجعة. يروي الاستاذ في كلية العلوم داود نوفل أنّ شعب الكلية التي افتتحت في صور والدبية وبنت جبيل وعمشيت هي أشبه بدكاكين للتوظيف جرى استحداثها على قاعدة 6 و6 مكرر ولغايات شعبوية وغير تنموية، فالطلاب يدرسون فيها سنتهم الأولى فقط ومن ثم يضطرون في السنة الثانية للانتقال إلى الفروع الأساسية من أجل استكمال اختباراتهم التطبيقية كي ينالوا شهادتهم.
ويوضح أن التشعيب الماضي حوّل الجامعة إلى كانتونات، باعتبار أنّ عدد الطلاب في كل هذه الشعب لم يكن يوازي عددهم في قاعة واحدة في الفرع الرئيسي، مشيراً إلى أن الشعبة تشبه المدرسة الابتدائية إذ تفتقر لكل مقومات التعليم الجيد ومفاصل الحياة الجامعية من مبان ومختبرات وتجهيزات. برأيه، الأجدى أن تنصبّ الجهود بصورة مدروسة ومنظمة ومنهجية على إنشاء مجمعات جامعية لائقة في المحافظات.
مصادر في مجلس الجامعة: لا دراسات جدوى حقيقية للاختصاصات في مناطق التفريع
«الجامعة تجمع والاندماج الاجتماعي هو أحد أهم وظائفها فهي ليست سوبرماركت»، يقول الأستاذ المتقاعد علي الموسوي. لا يقلل الموسوي من حق أبناء المناطق بالحصول على التعليم الجامعي ولكن في سياق عدم تشتيت أفراد الهيئة التعليمية والحفاظ على المستوى الاكاديمي ونوعية التعليم بالدرجة الأولى.
شماعة الانماء المتوازن
ماذا لو كان القرار تنفيعة لجهات سياسية بهدف التوظيف السياسي والانتخابي؟ يستفز هذا السؤال وزير الصناعة حسين الحاج حسن فيقول إن «علاقتنا بالناس ليست موسمية، والفكرة واردة منذ أن جرى فتح شعبة لكلية العلوم في بعلبك في العام 2005، حيث قدمت بلدية الهرمل أرضاً شاسعة تبلغ عشرات آلاف المترات المربعة على أطراف الهرمل، وقد جرى تأمين تمويل البناء والتجهيز». وفيما يؤكد الحاج حسن أن التوجه لا يزال قائماً لدى الحكومة بانشاء المجمعات الجامعية، يشير إلى أن القرار الحالي «يحقق الحد الأدنى من الإنماء المتوازن»، مستغرباً الكلام على الانصهار وخصوصاً أننا «لم نفتح سوى 3 كليات والانصهار يمكن أن يتحقق في كليات أخرى».
الوزير معين المرعبي يضع الاعتراض على التفريع الجديد في خانة «التشاطر لحرمان عكار». وعن الكلام على الشعبوية والتوظيف الانتخابي، قال: «نحن قمنا بدراسات أولية للمباني التي خصصت لفروع عكار في منطقة العبدة، أظهرت أن 55 % من طلاب فرع طرابلس هم من عكار ولو اكتملت الفروع لدينا سينتقل 5 آلاف طالب إلى فرع عكار»، لافتاً إلى أننا «وقعنا منذ العام 2010 بروتوكولاً بين وزارات الزراعة والتربية والمال في هذا الشأن، وثمة استعداد لانطلاقة الدراسة في بعض الاختصاصات لا سيما الزراعية منها ابتداءً من العام الدراسي المقبل».
مسار تفريع الجامعات
يسير مسار التفريع في الجامعة اللبنانية على عكس مسار الجامعات الأخرى. فالجامعات لا تنشأ في المدن والقرى البعيدة فروعاً «فوتوكوبي» عن الجامعة الأم، انما تستكمل الاختصاصات بحسب الاحتياجات التنموية والاجتماعية في هذه المنطقة. فجامعة مونتريال في كندا مثلاً أنشأت فروعاً في منطقة المناجم في الكيبيك لتدريس علوم المواد والمعادن بغية دعم الصناعة في التحضير الأكاديمي، لأن من وظيفة الجامعة أن تساهم في الانخراط في البنية الاقتصادية في هذه المنطقة.
الفروع الجديدة
أصدر مجلس الجامعة اللبنانية في آذار الماضي قراراً بإنشاء الفروع في عكار وبعلبك ـ الهرمل وجبيل ـ كسروان، وأودعه وزير التربية مروان حمادة، الأمانة العامة لمجلس الوزراء، في حزيران 2017. ووافق مجلس الوزراء على إنشاء فرع لكلية العلوم في عكار (فيزياء، رياضيات، كيمياء، بيولوجيا ومعلوماتية) وفرع للمعهد الجامعي للتكنولوجيا (هندسة مدنية، هندسة الصناعات الغذائية، هندسة صناعية وصيانة، معلوماتية وإدارة، هندسة شبكات المعلوماتية والاتصالات) وفرع لكلية الصحة (تمريض) وفرع لكلية الزراعة (طب بيطري وهندسة زراعية) وفرع لكلية التربية (الاختصاصات تحدد لاحقاً). وأرسل رئيس الحكومة سعد الحريري كتاباً إلى مجلس الجامعة يطلب فيه نقل اقتراح المجلس باستحدث كلية كلية العلوم البحرية (علوم الملاحة البحرية، قبطان بحري، مهندس بحري، بحار وعلوم الأحياء البحرية) من عكار إلى البترون فوافق مجلس الجامعة. أما فروع بعلبك ــــ الهرمل فتضم شعبة كلية العلوم (فيزياء، رياضيات، كيمياء، بيولوجيا ومعلوماتية)، وفرع المعهد الجامعي للتكنولوجيا (هندسة مدنية، هندسة الصناعات الغذائية، هندسة صناعية وصيانة، معلوماتية وإدارة، هندسة شبكات المعلوماتية والاتصالات) وفرع كلية الصحة (تمريض) وفرع كلية الزراعة (طب بيطري وهندسة زراعية) وفرع لكلية التربية (الاختصاصات تحدد لاحقاً). وأكد مجلس الجامعة على متابعة موضوع تجديد عقد التخصيص للقسم رقم 3 من العقار 295 من أملاك الدولة الخصوصية (وزارة التربية والتعليم العالي) في منطقة اده العقارية ــــ قضاء جبيل لصالح الجامعة اللبنانية ليصار إلى إنشاء مجمع جامعي يضم فروعاً للكليات التالية: السياحة، التربية، المعهد الجامعي للتكنولوجيا، وتضم إليه أيضاً شعبة كلية العلوم في عمشيت.
عميد الزراعة: لم نفرّع الكلية
لا تزال الجامعة تنتظر الحصول على نص مرسوم الفروع الجديدة. في ما يتعلق بفرعي الزراعة في عكار والهرمل، أكّد عميد كلية الزراعة سمير مدور لـ «الأخبار»: «لم نتسلم المرسوم بعد ولا نعلم ما إذا جاء متوافقاً مع ما قررناه في مجلس الجامعة لا سيما بالنسبة إلى كلية الزراعة. في هذه الكلية، لم نطالب بفروع انما بإنشاء ماسترات وتنفيذ بعض الأعمال التطبيقية في عكار والبقاع كون طبيعة المنطقة تسمح بذلك، أما السنتان الأوليان فتكونا مشتركتين بين كل الطلاب وتدرسان في مبنى الكلية في الدكوانة».