Site icon IMLebanon

Show Time

“وأكبر كذبة أميركية وروسية وإيرانية وتركية وأوروبية هي الحديث منذ سنوات عن حل سوري – سوري من دون تدخل خارجي“.

رفيق خوري

لا يجيد فلاديمير بوتين “لغة الوجوه” لأن تقاسيم وجهه لا تُقرأ. رجل مخابرات متمرس في إخفاء جميع انواع المشاعر حيثما وجدت. بدل “لغة الوجوه” يستخدم لغة العرض، لغة المسرح. إحداها، كانت اولمبياد سوتشي المبهرة. احداها، كانت استعادة القرم من أوكرانيا على طريقة القبضايات. العرض الأخير بدأ في 23 ايلول الماضي عندما ذهب يشارك المسلمين الروس في افتتاح أكبر مساجد روسيا. وبعده جاء إلى نيويورك، لكنه رفض تمضية الليلة فوق الأرض الأميركية. ولما تصافح مع أوباما من أجل الصورة التذكارية، حرص كلاهما على أن يبلِّغ المصورين الرسالة التي يجب نقلها إلى العالم: لا ابتسامة حتى من أجل لزوميات المناسبة.

تابعتُ الأسبوع الماضي افتتاحيات الصحف الروسية التي كنت اقرأها محرراً في القسم الخارجي، لكي نعرف منها مواقف الكرملين. لغة “البرافدا” الروسية مثل لغة “البرافدا” السوفياتية أو أشد: “مَن هو باراك أوباما لكي يملي علينا دروساً في السياسة الدولية؟ مثال على الوقاحة الصارخة والخبث الغربي”.

كتب كثيرون أن بوتين آتٍ ومعه معالم أفغانستان أخرى. “البرافدا” تعطي انطباعاً آخر. قادم للثأر من أفغانستان الأولى. وقد بدأ عملية الانتقام باستخدام الفيتو حول سوريا، مغيّراً بذلك طبيعة الصراع، ناقلاً حركة أوباما من السربلة إلى الشلل.

لا أذكر في عملي الصحافي أن وزير خارجية ما، باربادوس أو التوغو أو أميركا، أمضى كل هذا الوقت بعيداً من مكتبه ومنزله. جون كيري في جنيف، في موسكو، في باريس يحاول أن يقرأ نيات سيرغي لافروف وتعليمات رئيسه. أو جون كيري في لوزان يحاول أن يقرأ ابتسامات محمد جواد ظريف.

مثل طوم وجيري كان الفأر ينتصر على الهر دائماً بالفخاخ. يبني طوم خططه على الطريقة الكلاسيكية المتوقعة، ويرسم جيري مواجهاته على السخرية من العقل التقليدي. كان مشهد المستر كيري، المتنقل حول العواصم والمحادثات والمفاوضات مثل قس انجيلي، يثير العطف حقاً كلما ظهر له سيرغي لافروف، مداعباً أذنيه، ضاحكا من الند الذي لا يزال يصدق كل ما يقال له. وما أن يعود كيري إلى منزله مطمئناً حتى يٌستدعى من جديد: دعك من البند الثاني، يجب أن نعود إلى المقدمة التي تمهد للبند الأول كمدخل إلى الفقرة الأخيرة.

لافروف يعرف أن أوباما يريد أن يصدق كل ما يخفف عنه المسؤولية، لذلك، لم يتوقف عن توجيه الرسائل الغامضة. ألم يقل مفكر السياسة الأميركية هنري كيسينجر أن الغموض بنّاء؟ ألم تقل وزيرة خارجية جورج دبليو أن “الفوضى خلاّقة”؟ لكن جون كيري يريد أن يدخل التاريخ على أنه جورج مارشال آخر. والوقت غدّار متعجل، وعهد رئيسه يفلت من بين الأصابع مثل قالب الجبنة الذي تركه طوم بالغلط عند جحر جيري.

الجزء التالي من العرض تولاّه بوتين بنفسه: المقاتلات الروسية الأكثر حداثة، الجذابة التصميم بدل قتوم “الميغ” وعبوسها وسوادها، وها هي تحلّق في سماء سوريا وتقصف بحذاقة ودقة ما فات همجية البراميل طوال ثلاثة أعوام. المستر كيري مفاجأ مرة أخرى، ويعقد مؤتمراً صحافياً آخر مع جيري. والسوريون يدركون، في المخيمات ومشردين على حدود الدول، أن كل شيء سوف يبدأ الآن من جديد: الأسرة الدولية تتمطى وتنفخ البيانات مثل طوم عندما يشخر.

للمرة الأولى، في هذا الجزء من العرض، كان فلاديمير فلاديميروفيتش واضحاً: إنه يضرب عسكرياً للمرة الأولى منذ الحرب الباردة خارج أرض الاتحاد (الروسي أو السوفياتي، لا فارق)، لأن الشرق الأوسط الجديد سوف يكون جديداً على يديه ايضاً. ها هم الروس يظهرون في أرض التركة السوفياتية وبلاد “معاهدات الصداقة المثمنة أعلى تثمين”، أي في سوريا والعراق، حيث خرج التحالف على “دولة الخلافة” أكثر من خمسة آلاف طلعة من غير أن يدمّر قافلة بنزين مهرَّب. ولكن ليس من الضروري أن تحصر “السوخوي” اللماعة القصف بـ”الدواعش”. إنها هناك بتفويض من رئيس الدولة وهو غير محدود، لأن الأعداء لا حد لهم. كيفما قصفت سوف توفق، والموت في الشرق عادة.

كان في إمكان الروس أن يفعلوا ما فعله الأميركي في فيتنام، عندما كان الاميركيون يقودون طائرات سايغون. لكن المسألة أهم وأبعد من ذلك بكثير. في هذا الفصل من العرض تبلِّغ موسكو العالم أنه مقابل التحالف الذي اقامته واشنطن، ها هي تقيم حلفاً يعبر سوريا إلى العراق وإلى ايران، وهو حلف لائق خالٍ من السلاح النووي. مجرد طائرات “سوخوي” لمّاعة تُقلع من اللاذقية بدل عناء الطائرات الأميركية التي تُقلع من بحر العرب.

عرض شيق لولا أنه بالصواريخ الحقيقية، وأن القتلى أناس حقيقيون، وان الحل في سوريا كذبة كبرى. بدأ الأخضر الابرهيمي مهمّته بالتحذير من أن سوريا سوف تتحول إلى صومال آخر، وأنهاها بالقول إنها ستتحول إلى أفغانستان أخرى. لك الحرية في اختيار المشبه به، لكنك لن تعثر في المقارنات على شيء شبيه بسوريا: الدب الروسي، وفق وصف بوتين، يخدع النسر الأميركي ويقتحم مقر المزاد والمناقصة معلناً: اميركا تريد خمس سنوات لإنهاء “داعش”، أنا اعطوني أربعة إلى خمسة أشهر.

في هذا الإعلان افتراض أن روسيا سوف تقيم العرض الجوي وحيدة في أجواء سوريا. وقد يكون الافتراض صحيحاً، إذا ما بني على “تململات” العام الأخير من عهد أوباما. لكنه قد لا يكون كذلك إذا استمر الدب الروسي في العبث في كروم أخرى. فهو مسلح بتفويض من “الرئيس الشرعي” وهذا يعني أن التفويض يشمل سائر أرض سوريا، وربما العراق، من أجل اقتلاع “داعش”، ومن يصدف في الطريق إليه.

عندما قرر جورج بوش الإبن ضرب العراق قال جاك شيراك إن “ابواب الجحيم سوف تفتح”. لا نعرف أي أبواب سيفتح الحلف الجديد. لكنني اعتقدأن روسيا اغلقت خلفها باب الخروج. جاءت لتبقى في قاعدتها الأولى والأخيرة ومعها ذريعة لا يمكن أحداً الاعتراض عليها: قتال “داعش”. وتبدو “لعبة الأمم” على أرض سوريا، وفي سمائها، مثل فيلم سينمائي للأطفال. تحالف دولي من 60 دولة لا سابق له في التاريخ يعجز عن مواجهة ذبّاحي “داعش”، و”فارس” روسي يطل فجأة لكي يتعهد المسألة برمّتها: حماية النظام وإعادة الحياة للجيش السوري، ودعم الميليشيات المقاتلة إلى جانبه، وتجميد، أو دحر، المتقدمين على الجبهات.

في هذا المشهد المستجد ماذا عن أصحاب الأرض وأصحاب الحق، وإذا شئت، عن أصحاب الحياة واخيراً “اصحاب الدم”، أي السوريين؟ سمعت الرئيس الكولومبي خوان مانويل سانتوس يتحدث إلى ديفا المذيعات كريستيان آمانبور، عن المصالحة في بلاده بعد 50 عاماً من الحرب الأهلية: جملتان للحفظ. الأولى، إن الحرب أسهل بكثير من السلم. الثانية، إن الضحايا فريقان. واحد وقعت به المصيبة من موت وتشرد ودمار وهذا يصر على العدالة الآن أياً كان الثمن، وواحد يخشى أن يكون هو الضحية المقبلة، ولذا يري التسوية بأي ثمن وبأسرع وقت.

لا يَرد ذكر السوريين كثيراً. فقط صورهم والإحصاءات الأخيرة عمن بقي منهم في بلاده. كان والد سيدة الرواية البريطانية فيرجينا وولف، رئيساً لدائرة خاصة تصدر موسوعة لائحة الشرف عن العسكريين الذين سقطوا في خدمة بريطانيا. وضعت الآنسة وولف بعمقها الأدبي والإنساني رواية تقول فيها إن آلاف الأبطال هم الذين لم تذكر اسماؤهم على أي لائحة. هم الموجودون غير الحاضرين. هم الضحية والبطل والحقيقة الأخيرة.

كان عنوان الرواية “غرفة يعقوب”. وكانت واحداً من أهم آثار وولف التي غيرت مسار الأدب اوائل القرن الماضي. ضمها إلى مقابلة خوان سانتوس: الضحايا الذين وقعت بهم المصيبة يريدون العدالة، أما الخائفون منها فيريدون التسوية.

في الحروب ينهار كل شيء. كل شيء. ويبدأ انهيار في الأخلاق عندما يسيطر الخوف والفزع والجوع ويتسلط الزعران ومدمنو الدمار وتجّار الدموع. وتتنوع مقاييس الظلم ومعايير الجريمة ولا تبقى سوى قاعدة واحدة هي النجاة. الخوف من بوتين هو أنه لايقيم وزناً لـ”غرفة يعقوب”. لم يتوقف طويلاً عند تقسيم أوكرانيا ولا عند تحويل غروزني من مدينة إلى مقبرة مزروعة بالعظام. لم يكن جورج دبليو بوش أكثر أخلاقية. في الحروب تنزع الاخلاقيات من لائحة المقاييس.

سوف ينقل الوحوش والهمجيون شيئاً من الحرب والفظاعة إلى قلب روسيا. هناك 2000 روسي يقاتلون الآن مع “داعش”، ولكن في روسيا الاتحادية مشاريع “داعشية” بالآلاف. قد لا يكون بوتين فتح “ابواب الجحيم”، لكنها مفتوحة في أي حال. في انتظار الفصول التالية من العرض.