IMLebanon

إِخْرَسْ هيَ تَعْرِفُ مصالحَها أكثر منك

النهاية الأخلاقية لأي حرب، لا تعني نهايتها السياسية أو العسكرية ولكنها تعني انتهاء أي مبرّر قِيَمي لها وتعني تحوّلَ كلِّ مشاركٍ فيها يدعو لاستمراريتها إلى “مجرمِ حربٍ” لا بالمعنى القانوني بل بالمعنى الأخلاقي. أكان عسكريا أو سياسيا، موالياً أم معارضا، حليفاً أو عدوا، محرّضا أو منظِّماً.

قد تكون صورة الطفل إيلان جثةً على الشاطئ التركي إعلانا عن النهاية الأخلاقية للحرب السورية. هناك نهايات مختلفة للحروب تتواكب أو تتلاحق أو تتفاصل. الحرب السورية، رغم بدء البحث الجاد جدا عن تسويةٍ لها في شرق أوسط ما بعد الاتفاق الأميركي الإيراني، ستستمر فترة طويلة. أحيانا قد تنتهي الحرب سياسيا ولا تنتهي عسكريا، أو تنتهي اقتصاديا ولا تنتهي سياسيا. ولكن نهايتها الأخلاقية تسبق كل النهايات.

الدعوة لعدم استمرارية الحرب، وقفها بأي ثمن.

نحن مع الصورة الصدمة أمام نهاية أخلاقية للحرب. أصلاً تعميم الصورة المأساوية بهذا الشكل في كل مواقع النفوذ الإعلامية العالمية كان علامةً على قرار سياسي غربي بتحوّلٍ ما يجري التحضير له في الغرب تجاه الحرب السورية. كم طفلٍ ضحية سقط في هذه الحرب خلال السنوات الأربع ونيف ولم تُثِر سقطتُهُ ضمائرَ من أخذوا دوليا قرار عسكرة الثورة السورية لمواجهة عنف النظام الأمني وإسقاطه.

القرار السياسي باستيقاظ الضمير العالمي ولا سيما حيال لاجئي أوروبا، وكشف الحكومات الأوروبية الكبيرة كفرنسا وألمانيا عن حاجة اقتصاداتها الملحة لعمّال مهرة وغير مهرة، مؤشّران إضافيان على الشرق الأوسط الجديد البادئ بعد “الاتفاق النووي”… وكلمة نووي مع نهاية المشروع النووي الإيراني ستصبح إسماً حركيا لما هو جيوبوليتيكي.

في هذه الدينامية الجديدة بل الديناميات الجديدة، وإيران نظاما وسياسةً من داخلها مثل كل الأطراف الأخرى، أحداث صغيرة وأخرى كبيرة، منظورة وغير منظورة، هي الآن آخذة إما في الحدوث وإما في تراكم ما قبل الحدوث. فالمسألة الجوهرية الآن هي إما أن ننطلق في تحليلنا لأوضاع المنطقة من أن هناك شرقاً أوسط مختلفاً بعد الاتفاق “النووي” وإما لا.

إذا كان الجواب نعم، وهذا رأي كل المحللين والمعنيين الأميركيين الاستراتيجيين، يصبح السؤال ماذا سيصمد من قواعد اللعب القديمة وماذا سيتغيّر؟ هذا يتوقّف على منطلق التحليل الأساسي. وإذا كان لا، فإن الكثير من مظاهر قواعد اللعب القديمة ستكون، برأيي، خادعة وعرضة لصدمات مربكة لمحلّلي الفئة اللائيّة.

حاضَر وزير الخارجية الأميركي جون كيري في الثاني من سبتمبر الجاري أمام بضع مئات من الحضور في “المركز الوطني للدستور” في فيلادلفيا في ولاية بنسلفانيا عن “خمس أساطير” تتعلّق بالاتفاق مع إيران. فنّدها جميعا من زاوية تطمينية دأبت القيادة الأميركية على تأكيدها من حيث قوة الرقابة وفعاليتها على أي محاولة إيرانية للتلاعب ببنود الاتفاق حول النووي، ومن حيث تشديدها على أن الاتفاق لا يسيء إلى التزامات أميركا حيال حلفائها في المنطقة.

علينا أن ندقِّق في اللاأسطوري داخل هذه الأساطير.

لذلك لفت نظري أمران، الأول أن المقطع الذي يتحدث فيه عن الضمانات للحلفاء جاء مفصّلاً عندما  كان الموضوع إسرائيل بما فيه تسمية “حماس” و”حزب الله” وجاء عاماً عندما كان الموضوع دول الخليج.

الملاحظة الثانية هي جَزْمُهُ، لمنتقدي رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران بما يعطيها إمكانات كبيرة، أن هؤلاء يجب أن يفهموا أن المنطق الأساسي للاتفاق هو تخلّي إيران عن التحضير للسلاح النووي مقابل التخلّي الغربي عن العقوبات عليها، بدون هذه المقايضة، قال، لا وجود للاتفاق. وكأنه يسلِّم بحصول إيران على إمكانات اقتصادية كبيرة؟؟ بالمناسبة كشفت تصريحات الرئيس باراك أوباما وجون كيري في محاضرته في فيلادلفيا أن دولاً كاملة الانخراط في النظام الغربي مثل كوريا الجنوبية واليابان ناهيك عن الصين وتركيا والهند كانت تخسر مليارات الدولارات سنويا من العقوبات على إيران قائلا لمعارضي الاتفاق أنه إذا كنتم تعتقدون بأن الكونغرس إذا أسقط الاتفاق سيُقنِع هذه الدول بأن تتخلّى عن مصالحها وتعيد قطع العلاقة مع إيران فأنتم مخطئون. ولفت كيري النظر لتعزيز خيار حكومته بالاتفاق إلى أن الأموال الإيرانية المجمّدة ليست موجودة في المصارف الأميركية وحدها وأنها موجودة في مصارف دول أخرى لها علاقات تجارية مع إيران فكيف “سنوقفها” بعد الآن دون إيذاء المصالح الأميركية؟!

على أن ضابطا كبيراً إسرائيليا سابقا ومديرا سابقا لجهاز أمني قال لرئيس حكومته بنيامين نتنياهو في مقال له في “النيويورك تايمز” أمس الأول هو آمي أيالون، أن رفْضَ الاتفاق مع إيران هو رفض الزعامة الأميركية للمنطقة وأن المطلوب ليس الرفض، الذي عارضته لجنة الدفاع والخارجية التي يرأسها نائب من حزب الليكود وعارضته كذلك مجموعة أساسية من ضباط المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، بل المطلوب هو التشارك مع أميركا لتعزيز الرقابة النووية على إيران.

بينما يواصل الإعلام الإيراني الترحيب بالمزيد من المستثمرين الألمان والفرنسيين والبريطانيين وغيرهم القادمين إلى طهران ويواصل الكثير من العرب محاولة فهم ومواجهة المتاهة الجديدة الدموية العاصفة بالشرق الأوسط ويواصل أهل الطفل إيلان والعالم البكاء عليه، وبعض هذا العالم الغربي يبكي بقرار سياسي لولا بعض الاندفاعات المشرّفة والبريئة للرأي العام في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، لم نسمع بعد في الغرب الاعتراف الذي طال انتظاره وهو ضرورة وقف الحرب في سوريا بأي ثمن.

عدا ذلك فإن خبث لعبة الأمم في سوريا والمنطقة لا يزال جارياً ومعه يولد شرق أوسط جديد… طالما لم تقف هذه الحرب.

لا تستطيع كفرد سوري أو عربي أو غير عربي أن تكون متعاطفا وحزينا على الضحية الفاطرة للقلوب إيلان كردي وفي الوقت نفسه لا تدعو إلى نهاية الحرب في سوريا بأي ثمن. أما الحكومات فتوقيتها لذرف الدموع سياسي… وقد اختارت هذه المأساة الأخيرة. لماذا؟ إخرسْ هي تعرف مصالحها أكثر منك.