IMLebanon

بين الديوان والوزارة والمستشفى… الموظَّفة لم تَعُد

 

 

قصّة صرْف تعسُّفي بدأت في 2006 ولم تنتهِ بعد (2 من 2)

 

 

نكمل مع قضيّة رئيسة دائرة الشؤون الإدارية والمالية في مستشفى سبلين الحكومي، منى غيّاض. قضيّة الصرْف «الحكومي» التعسّفي التي أثرناها أمس. من امتناع المستشفى عن الإلتزام بقرار وزارة الصحة القاضي بإعادة الموظفة إلى العمل؛ إلى ما بعد صدور قرار التفتيش المركزي القاضي بإحالة أعضاء مجلس إدارة المستشفى ومفوّض الحكومة لدى المؤسّسة العامة لإدارة الأخيرة إلى ديوان المحاسبة لهدر المال العام. التشعّبات والتجاوزات تُوسّع دائرة الحلقة المفرغة تلك.

 

قد يكون بديهياً التساؤل عما إذا كانت الأيام القليلة التي داومت خلالها غيّاض في مستشفى سبلين، قُبيل اندلاع حرب تموز 2006، كافية لقيامها بمخالفة القوانين والحكم عليها بعدم كفاءتها. لا بل هي التي حازت على المرتبة الأولى في امتحانات مجلس الخدمة المدنية ذات الصلة. غير أن تكليف رئيس القسم الإداري، صلاح الدبيسي، بتاريخ 14/11/2007، من قِبَل مجلس الإدارة بمهام غيّاض يطرح علامات استفهام. علماً بأن الأخير هو الموظف الوحيد الذي لم يمتثل لقرار ديوان المحاسبة القاضي بـ»إحالة موظفين نتيجة التحقيق في دفع تعويضات مالية لمستخدَمين في مستشفى سبلين الحكومي دون وجه حق»، رافضاً إرجاع كل ما تقاضاه مقابل تسلّمه وظيفة غيّاض لحساب المستشفى. وهو، بالمناسبة، عُيّن من قِبَل وزير الصحة السابق، وائل أبو فاعور، مستشاراً له في ما بعد.

 

رفْض وإسقاط التدخلات ثالثتهما

 

لكن نترك علامات الاستفهام جانباً ونعود لنسأل غيّاض عمّا في جعبتها من مزيد. «بعد صرفي تعسّفياً، تقدّمت بشكوى لدى وزارة العمل، إلّا أن مدير المستشفى، الدكتور أحمد أبو حرفوش، رفض إعادتي إلى وظيفتي. بعدها لجأت إلى مجلس العمل التحكيمي حيث تمّ، بتاريخ 10/08/2010، قبول الدعوى بالشكل ورفضها بالأساس بذريعة أن لا صلاحية للمجلس بإرجاع مستخدَم إلى عمله، استناداً إلى المادة 50 من قانون العمل، علماً بأنني صُرفت وفقاً للمادة 12 من مرسوم المستخدَمين الخاص بالمستشفيات الحكومية». وقد أكّدت محكمة التمييز على هذا القرار في حين اعتبر مجلس شورى الدولة أن مجلس العمل التحكيمي هو المرجع الصالح للبتّ بالقضية، غير أنّ أيّ من هذه الجهات القضائية الثلاث لم تسعَ لفتح تحقيق بالملف.

صدر القرار النهائي. لكن الأخير أُسقط بحجة مرور الزمن، ما يثير المزيد من التساؤلات، لا سيّما وأن أحد المستشارين الثلاثة في الملفّ أبدى اعتراضاً واضحاً على ما حصل. إلّا أن قرار الإسقاط جاء بالأكثرية. ويضيف المصدر: «بحسب قانون ديوان المحاسبة، يسقط أي قرار مع مرور الزمن في حال لم يَجرِ فتْح محاكمة به خلال خمس سنوات من صدوره. وَرَدَ الملفّ إلى ديوان المحاسبة بتاريخ 23/12/2008، ونتيجة الضغوطات والتدخلات بقي «مُنيَّماً» حتى تاريخ 26/12/2013. من هنا جاء قرار ديوان المحاسبة بإعلان سقوط الملاحقة عن المخالفة لثبوت مرور الزمن الخماسي عليها».

 

الوزارة تفرض… والمستشفى يرفض

 

في جميع الأحوال، حكاية غيّاض لم تقف عند هذا الحدّ. فلوزارة الصحة حصة أخرى في طيّات الملفّ. تقدّمت غيّاض بالأخير كاملاً إلى الوزارة، وتحديداً إلى الوزير الدكتور حمد حسن الذي توجّه بدوره في 15/06/2020 إلى مستشفى سبلين طالباً توضيح أسباب عدم إعادتها إلى العمل. علماً بأن الوزير محمد جواد خليفة كان قد سبق حسن إلى ذلك (كما ورد في الجزء الأول). فجاء جواب المستشفى حاملاً جملة مغالطات أبرزها إنكار استلام كتاب سابق من الوزير خليفة يطلب فيه إعادة غيّاض إلى العمل. وحين تبيّن للوزير حسن الكمّ الكبير من الأضاليل والافتراءات الواردة في جواب المستشفى، قام بتاريخ 18/09/2020 بتوجيه كتاب ثانٍ إلى إدارتها يشير فيه إلى المغالطات والمظلومية والشك وعدم الإقناع بأسباب قرار الصرف، مجدّداً المطالبة بضرورة احترام القرارات الصادرة عن سلطة الوصاية وتطبيق القوانين وإعطاء غيّاض كافة حقوقها ومحو الغبن الحاصل بحقّها.

 

المستغرَب أن محضر جلسة مجلس إدارة المستشفى، بتاريخ 21/11/2006 وتحديداً في النقطة الرابعة من جدول الأعمال، يثبت استلام مجلس الإدارة كتاب الوزير خليفة ووضع شروط أساسية لعودة غيّاض إلى وظيفتها. نذكر منها التوجه بالاعتذار من أعضاء مجلس الإدارة، والتقدّم بطلب استرحام، كما سحب كافة الشكاوى التي تقدّمت بها ضدّ المستشفى. وقد تمّ تكليف الدكتور بلال عبدالله بمتابعة الملف مع وزارة الصحة غير أن المتابعة لم تتمّ.

 

تزامناً، لا بدّ من الإشارة إلى أن مدير المستشفى في تلك الفترة، الدكتور أحمد أبو حرفوش، كان قد بلغ السنّ القانونية في العام 2012. ورغم ذلك، استمرّ بالاضطّلاع بمهام المدير حتى وفاته في العام 2020. وهي، على الأرجح، سابقة من نوعها في تاريخ إدارات ومؤسسات الدولة. واللافت أنه قام، أثناء استمراره كمدير خلافاً للقانون، بترفيع عدد من الموظفين إلى رؤساء أقسام ودوائر، وقد حصل ذلك في عهد الوزير أبو فاعور. «من بين المخالفات، جرى ترفيع الموظف سمير أبو ضاهر ليستلم وظيفتي، وكان مقرّباً جداً من المدير، وهو نفسه من تقدّم بكتاب مباشر يطلب فيه الترفيع إلى رئيس قسم المحاسبة، دون مرور الكتاب من خلالي يوم كنت رئيسته»، بحسب غيّاض.

هكذا تُخالَف الأصول

حين علم عبدالله بعمل الوزير حسن على إعادة غيّاض إلى وظيفتها، طلب منه مباشرة تكليف الدكتور ربيع سيف الدين (المقرّب سياسياً)، مديراً للمستشفى، علماً بأنه ليس من موظفيها أصلاً. وهكذا حصل. فقد صدر قرار التعيين بعد أسبوع تحديداً من صدور قرار إعادة غيّاض إلى عملها. أيضاً مع العلم أنه، وفقاً للأصول وفي حال شغور وظيفة المدير، يوضع الموظف الأعلى فئة ورتبة وأقدميّة مكانه إلى حين تعيين آخر عبر مجلس الوزراء. وتضيف غيّاض: «لذلك، كان لي حق الإنابة بمهام المدير. وهنا لا بدّ من أن نسأل ما إذا كان هذا التكليف الصادر بقرار منفرد عن وزير الصحة يُعتبر هدراً للمال العام، خصوصاً وأن المدير المكلّف يقوم بأعمال طبية مأجورة داخل المستشفى، ما يشكّل تضارباً في المصالح».

 

وللمصادفة، صدر كتاب الوزير حسن بتكليف الدكتور سيف الدين مديراً للمستشفى بالتوازي مع كتابه الخاص بإعادة غيّاض إلى عملها. ورغم أن المدير المكلّف استلم الكتابَين معاً من وزارة الصحة، إلّا أنه دعا مباشرة إلى عقد اجتماع لمجلس الإدارة لوضع كتاب تكليفه على جدول الأعمال حيث تمّت الموافقة عليه ليباشر مهامه في اليوم التالي. أمّا كتاب إعادة غيّاض إلى وظيفتها، فما زال ينتظر منذ العام 2020 ليُدرج على جدول الأعمال رغم طلب الوزير آنذاك الإفادة بالسرعة القصوى. فإن لم يكن هذا تخطياً فاضحاً لقرارات الوزارة من قِبَل صرح استشفائي يمعن في التحدّي، ماذا عساه يكون؟

 

قد يكون الملفّ شائكاً بفصوله وتفاصيله. لكن ما يزيده غرابة، للأسف، هو مخالفات على غرار ما قام به أمين سرّ مجلس الإدارة حين وقّع على كتاب الإنذار الصادر حينها عن رئيس مجلس الإدارة/المدير إلى غيّاض، مستخدِماً توقيعاً مغايراً لتوقيعه المعتمَد (وهو الذي يُفترض به، كمحامٍ ينتمي إلى نقابة المحامين، أن يدرك جيّداً تبعات أي عملية تزوير). هذا ناهيك بعدم امتلاكه أساساً، كعضوٍ في مجلس الإدارة، صلاحية توجيه إنذارٍ إلى أي موظف أو موظفة.

ما اطّلعنا عليه وسمعناه وعرضناه عن قضيّة دارت رحاها – ولا تزال – داخل مستشفى سبلين الحكومي ليس أغلب الظن حالة فريدة من نوعها. لكنها قد تصلح، باختلاف السياقات والأساليب، كعنوان عريض لمسلسل محاصصات ومحسوبيات يلقي بظلاله على مستشفيات (ومؤسسات) حكومية كثيرة في لبنان. أما من ينصف غيّاض وأمثالها، فسؤال نضعه برسم أصحاب السلطة والضمير.