من منّا لا يتذكر جو كايسر، رئيس شركة “سيمنز” الألمانية العملاقة؟ ذلك الذي قرر كسر قواعد اللعبة اللبنانية بخروجه عن “صمت الصالونات” والمباحثات السرية، ليعلن في أيلول العام 2018 أمام الملأ أنّه كان مستعداً لتقديم عرض سخي للحكومة اللبنانية في ما خصّ قطاع الكهرباء.
يومها، لم يتردد الرجل في إشعال موقع “تويتر” من خلال تغريدة بدت أشبه بالصاعقة، أجاب خلالها على سؤال الصحافية يارا الأندري بقوله: “لقد عرضنا في سيمنز المساعدة. وإننا نتطلع إلى العمل مع الحكومة اللبنانية لوضع خريطة طريق خاصة بلبنان لتزويد الشعب اللبناني بإمدادات من الطاقة الكهربائية تتسم بالكفاءة العالية والجدوى الإقتصادية، وإننا نتطلع للقائكم قريباً، ويمكنكم بالطبع الاعتماد علينا”.
وفي الوقت نفسه، فاض تطبيق “الواتساب” بفيديوات قصيرة راحت تقفز عبر الهواتف المحمولة موثقة مقاطع من مقابلات تلفزيونية استضافت رئيس مجلس إدارة سيمنز خلال زيارته العراق، لترفع منسوب “الشواهد” المثبتة بالوجه “المرئي” أنّ وزير الطاقة اللبناني ضيّع على لبنان فرصة ذهبية قد تنقذه من “حيتان الكهرباء” التي ترسو قبالة شاطئه، والمقصود بها معامل توليد الطاقة المحمّلة على الباخرتيْن التركيتين.
وقد أمْطِر يومها سيزار أبي خليل بوابل من الانتقادات لأنه كان يفترض به تلقّف العرض الألماني الذي قدّم خلال زيارة المستشارة انغيلا ميركل الى بيروت نهاية حزيران 2018، أسوة بما فعله المصريون الذين “خطفوا” العرض الأوروبي ونجحوا في إنشاء محطات توليد كهرباء بقدرة 14400 ميغاوات، وبكلفة قدرت بنحو 8 مليارات دولار، فيما الخزينة اللبنانية تتكبد سنوياً عجزاً يتخطى الـ2 مليار دولار لإنتاج الكهرباء، وقلّما نلمح وجودها في أسلاك المنازل.
وعلى الرغم من إنكار أبي خليل ذلك “المسلسل” بكل وقائعه المنشورة على منابر مواقع التواصل الاجتماعي، ها هي شركة “سيمنز” تعود من جديد إلى غرف القرار برعاية رسمية من دولتها، وبتفاوض مباشر مع وزير الطاقة الحالي ريمون غجر الذي يمثل سياسياً “التيار الوطني الحر”.
عملياً، يشكل ملف الانتاج الكهربائي والعجز الذي يسببه على الخزينة العامة، العبء الأكثر ثقلاً، والقضية الأكثر دقة في لائحة اهتمامات الحكومة، لا بل أكثر اختباراتها صعوبة. فإما تنجح في وقف هذا النزيف لكي تتمكن من وضع المعالجات الاقتصادية السليمة، لمرة واحدة وأخيرة، على سكتها، وإما تفشل فتسقط سقوطاً مدوياً.
في بيانها الوزاري، أعلنت حكومة حسّان دياب التزامها “تنفيذ الخطة التي أقرت بالاجماع في جلسة مجلس الوزراء قرار رقم 1 تاريخ 8/4/2019 وأكدتها الورقة الاصلاحية التي وافق عليها مجلس الوزراء بموجب قرار رقم 1 تاريخ 21/10/2019 بعد إقرار التعديلات والاجراءات المجدية والضرورية”.
الإنقلاب على الخطة
ولهذا لم تسلم الحكومة من الانتقادات كونها تبنّت الخطة المتوارثة منذ أكثر من عقد من الزمن ولم تنفع معها كل الوصفات لإخراجها من “الحجر السياسي”. ومن “فجوة” التعديلات، يبدو أنّ الحكومة قررت الانقلاب كلياً على خطة الكهرباء، لا سيما في ما يخصّ آلية العرض وتوقيع الاتفاقية. لماذا؟
فقد استهلكت الحكومة السابقة أشهراً من النقاشات للاتفاق على دور ادارة المناقصات في وضع دفتر الشروط قبل استدارج العروض إلى حين قرر مجلس النواب وضع الصيغة النهائية التي تقول “تطبّق أحكام قانون المحاسبة العمومية وسائر النصوص ذات الصلة بأصول التلزيم للمناقصة، باستثناء تلك التي لا تتفق مع طبيعة التلزيم والعقود موضوعها، في مراحل اتمام المناقصات لجهة عقد شراء الطاقة”. قبل أن يبطل المجلس الدستوري المقطع الأخير من الفقرة “ب” من المادة الثانية والتي نصت على ما يلي: “باستثناء تلك التي لا تتفق مع طبيعة التلزيم والعقود موضوعها، في مراحل إتمام المناقصات لجهة عقود شراء الطاقة PPA، بسبب الغموض الذي يكتنفه”.
وها هي وزارة الطاقة والمياه تطلب من الحكومة “تفويضها الشروع بإجراء مباحثات مع كبار المصنّعين العالميين لوحدات إنتاج الكهرباء، لدراسة إمكانية القيام بتأمين التمويل اللازم وإنشاء معامل انتاج الكهرباء وتأمين الحلول الموقتة، من خلال مفاوضات مباشرة واتفاقيات تعقد بين دولة ودولة وتحت سقف المادة 52 من الدستور”، كما جاء في جدول أعمال مجلس الوزراء الذي سيعقد اليوم الخميس.
عملياً، باتت الأمور في مكان آخر. لم يعد بالإمكان الركون إلى صيغة المناقصات لاتمام عقود شراء الطاقة PPA (عقد بين القطاعين الرسمي والخاص) نظراً للوضع المالي المتدهور، وصار لا بدّ من بحث عن صيغ أخرى قابلة للتنفيذ. من هنا، قرر وزير الطاقة التفاوض بشكل مباشر مع مصنّعين عالميين لعقد اتفاقيات بين دولة ودولة لتكون الأخيرة الضامن المالي لمصنّعها المحلي.
إنطلاق المفاوضات
ويبدو أنّ “سيمنز” التي خرجت من “شبّاك أبي خليل”، عادت من “باب غجر”. الأخير لم يتردد خلال لقائه لجنة الأشغال النيابية قبل نحو أسبوعين، وتحديداً في الثالث من آذار، في الكشف عن محادثات غير رسمية بدأها مع العملاق الألماني بإشراف السفارة الألمانية، كما مع شركة “جنرال الكتريك” الفرنسية (“ألستم” سابقاً) بإشراف السفارة الفرنسية، تمهيداً للانطلاق في ماراتون المفاوضات الرسمية بعد نيل موافقة مجلس الوزراء، ذلك لأنّ هذا النوع من التفاوض يحتاج أولاً إلى توقيع مذكرة تفاهم MoU تعبّر عن تقارب إرادتيّ الطرفين المعنيين من باب السعي لتأمين التمويل الخارجي. ويؤكد أحد النواب العاملين في هذا الملف أنّ ادراج البند على جدول أعمال مجلس الوزراء هو خطوة رسمية لا بدّ منها للانطلاق في مشوار المفاوضات مع الشركات العالمية، مشيراً إلى ان العملاق الألماني متحمّس جداً لدخول السوق اللبناني، مثنياً على شفافية وزير الطاقة في وضع الداتا أمام النواب بلا أي مواربة، على خلاف كثر من أسلافه.