IMLebanon

غربال التسويات في المنطقة: من سيصمد فوقه؟

كلام في السياسة | 

كل الأجواء الإقليمية تشير إلى أن مرحلة التسويات قد بدأت. يكفي استعراض المحطات الحوارية المتتالية منذ أسابيع، ليدرك المراقب عمق الحراك الحاصل في منطقة الشرق الأوسط وحوله:

في 14 تموز وقع الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة الدولة الغربية، وفي مقدمها الولايات المتحدة، ومن بينها رأس الحربة الخليجية في قلب أوروبا والغرب، «نظام هولاند ــــ فابيوس».

أجواء الاتفاق كانت مرتقبة ومحتملة ومرجحة، لا بل شبه مؤكدة قبل التوقيع بأسابيع. وهذا ما جعل محمد بن سلمان يزور روسيا في 19 حزيران، ويوافق على طرح بوتين ــــ المعجزة: حلف جديد ضد الإرهاب، يضم في من يضم، دمشق والرياض.

بعد هذه الخطوة تتالت المفاجآت: علي المملوك في جدة في 7 تموز. المسار بات أكثر وضوحاً. لقاء الدوحة بعد أقل من شهر: كيري ولافروف والجبير يتابعون في قطر، في 3 آب، نتائج المبادرة الروسية. بعد يومين فقط وليد المعلم في طهران، للمزاوجة بين طرح بوتين ومبادرة الإيرانيين للحل. في الوقت نفسه كلام ــــ مفاجأة من نوع أكثر ثقلاً: قبل ساعات من وصول ناظر الخارجية السورية إلى العاصمة الإيرانية، اتصال أميركي ــــ سوري على مستوى السفيرين في الأمم المتحدة. وبعد ساعات المعلم نفسه في مسقط، عاصمة مؤتمر التسوية المقبلة… في هذه الأثناء يستمر في الكواليس غير المعلنة ولا المؤكدة بعد، كلام عن مفاجآت كثيرة أخرى لم تخرج إلى العلن: الزيارات السورية إلى السعودية تكررت، زيارات سعودية أمنية إلى دمشق. لم يكن ينقص غير الاسم السحري: جيفري فلتمان نفسه، قد يحط قريباً في العاصمة السورية، وإن بصفته الأممية. خطوة لا بد أن تذكر بزيارة الرجل نفسه إلى طهران، وصورته إلى جانب بان كي مون في لقاء خامنئي في 29 آب 2012. يومها قيل إن الاتفاق النووي في بعده السياسي بات منجزاً. بقيت التفاصيل التقنية، و»تبليعه» لمن لا يفهمون لغة «البارتر» الأميركية و»البازار» الإيرانية (أي مصادفة في تشابه صوت المفردتين في لغتين متباعدتين!) في الخليج وواشنطن وتل أبيب.

لا يمكن لهذا السيل من التقاطعات أن يكون مجرد مصادفة. ولا يمكن لأطرافه الإقليميين والدوليين أن يكونوا من هواة السفر المكوكي أو تقطيع الوقت. سياق التسويات انطلق إذن. يبقى السؤال في كل عاصمة وفي كل معسكر حول مضمونها.

التطورات الميدانية تشي بالكثير على هذا الصعيد. هي أيضاً لم تكن بنت العدم. في تتاليها وبعض مفاجآتها، شكلت عنصر التلازم مع خبطات السياسة: في اليمن، عاد المعسكر السعودي إلى عدن. يقول السوريون بصراحة أن المسألة طرحها بن سلمان مع بوتين مباشرة. ويقولون إن الروس نقلوا هواجسهم إلى كل من الأميركيين والإيرانيين. عاد شيء من التوازن إلى الساحة اليمنية. الحوثيون غمزوا بشكل جريء من قناة طهران. أحد الصحافيين اليمنيين قال لوزير إيراني علناً في دمشق: ماذا قبضتم ثمناً لعدن؟ بعد أيام، بدا أن المسألة ليست مجرد بيع أو شراء. بل قواعد جديدة تتبلور بالتلمس والتجربة، لتسوية واقعية معقولة ومقبولة. في اليوم نفسه، كان وفد حوثي يلتقي الموفد الأممي حول قضية اليمن، في مسقط نفسها. فيما كان وزير الخارجية السعودي يعلن من روما، أن «الحوثيين جزء من الشعب اليمني». هي البداية إذن حول «مسقط يمني»، يحل محل «الطائف» القديم ومحل المشاريع الطرفية من «طهران واحد» إلى «الرياض اثنان».

في العراق، بدأت تلمسات التغيير بشكل أكثر مدنياً. هي انتفاضة الكهرباء في بغداد ومدن العراق، ما تكفل بإطلاق الخطوة المعبرة الأولى. رحل المالكي بعد صراع طويل. عادت الأدبيات العراقية الشيعية إلى خطاب الدولة والمواطن وحاجاته الأساسية وبناء بلد. بعد تغرّب استمر دزينة كاملة من الأعوام، عن مفاهيم الإنسان لصالح عضو العشيرة والمذهب وتناحر الدم العبثي. كل ذلك فيما الغرب العراقي يحسم ببطء ضد همجية داعش. شيء من مشهد عراقي جديد، مفتوح على أشكال ممكنة من تسوية خاصة ببلد دفن آخر مفهوم للتسوية مع عمرو بن العاص.

في سوريا واضح أن المشهد أكثر تعقيداً، لجهة مضمون التسوية الممكنة. الإيراني أدخل للمرة الأولى منذ بداية الصراع، مفهوم «طمأنة المجموعات الإثنية والطائفية». السعودي يبدو سائراً في اللعبة، ورهانه في نهايتها على انتخابات تنتج سلطة جديدة، يحضر لها عبر ورقتين: التعبئة المذهبية المتولدة من أعوام الموت الماضية، والإغراق المالي لضمان الصوت المرجح. تركيا لا تزال معترضة. وهي تسجل اعتراضها يومياً على جبهات الشمال، عبر نصرة «القاعدة» المتلبسة اسم «النصرة». لكن كلام بشار الأسد قبل أسبوعين فتح أكثر من خط لتلك التلمسات. كلام عن أن لا جيش إيرانياً في سوريا. وهو إشارة واضحة إلى الكلام السعودي في موسكو وكلام بن سلمان إلى المملوك. ثم كلام عن وحدة سوريا، من ضمن الأهمية الأولوية لمنطقة سورية حيال أخرى. قيل ذلك، فيما كان معارضو اسطنبول يلتقون الروس مباشرة.

لكن يبقى الهم الأميركي في سوريا، أو الهدف الأميركي الوحيد المعلن تجاه دمشق: محاربة الإرهاب. من هي الجبهة الحقيقية القادرة على ذلك؟ من هي القوى العسكرية الميدانية الفعلية التي نجحت في مواجهة «داعش» منذ قيامها وحتى قيام التسويات؟ تلك ستكون ثابتة في الحلول. وحدهم أصحابها سيضحكون كثيراً وأخيراً مع ضحكات ظريف.