في الأيام المقبلة، لن يكون الهمّ السياسي وحده نجم التطورات، اذ سيحلّ الهم المالي والاقتصادي ضيفاً ثقيلاً على الساحة، خصوصاً ان مناخ المواجهات الذي أطلّ برأسه على البلد، ستكون احدى ادواته الأساسية الضغوطات المالية والاقتصادية.
هناك كلام في كل الاتجاهات حول الوضعين المالي والاقتصادي، مع التركيز على الوضع النقدي، على اعتبار انه الأشد تأثيرا بشكل مباشر على القدرات الشرائية للناس، وعلى المدخرات والثروات، ولأنه قد يتحوّل من نتيجة الى وسيلة.
بمعنى، ان احتمالات تراجع قيمة العملة الوطنية، لا يرتبط فقط بالخلل الذي قد يحصل في الوضعين المالي والاقتصادي، بل يمكن اللجوء الى تغييرات في قيمة العملة كوسيلة محتملة لتخفيف مفاعيل الأزمتين الاقتصادية والمالية الى حين، وشراء الوقت للتمكّن من الصمود بانتظار أوضاع أفضل.
ما يُقال اليوم، في الوضعين المالي والاقتصادي يتراوح بين التشكيك والقلق من احتمال حصول تغيير في سعر الليرة، وبين كلام مُطمئن يؤكد أصحابه ان الوضع ممسوك، ولا مؤشرات على احتمال فقدان السيطرة.
في قراءة الوضع، يمكن تقسيم الملف الى مجموعة نقاط من أهمها:
اولا – في الادوات المتوفرة لدى مصرف لبنان للدفاع عن سعر النقد، يبدو الوضع مريحاً والاحتياطي المؤمّن بالعملات يكفي للحفاظ على الاستقرار النقدي لفترة غير قصيرة.
ثانيا – في الوضع المالي، اقترب الدين العام من عتبة الثمانين مليار دولار. كلفة هذا الدين السنوية حوالي الـ5 مليار دولار، أي ما يوازي 8 الى 10 في المئة من الناتج الوطني، وهي نسبة مُقلقة في كل المقاييس.
ثالثا – في الوضع المصرفي، اقترب حجم الودائع من 180 مليار دولار، أي ما يوازي 350 في المئة قياسا بالناتج الوطني، وهذه النسبة اكثر من مريحة، وهي من أعلى النسب الموجودة في دول العالم.
رابعا – في التحويلات من الخارج، وصل المبلغ الى حوالي 8 مليار دولار، وهو رقم داعم للاقتصاد الوطني، ويشكّل حوالي 15 في المئة من الناتج.
هذه المؤشرات في مجموعها تقود الى استنتاج مفاده ان القدرة على الاستمرار ضمن الاستقرار القائم متوفرة اذا لم تأخذ التطورات في الايام المقبلة المنحى الدراماتيكي.
كذلك، فان هذه المؤشرات توحي بأن الحفاظ على الاستقرار النقدي محكوم بالوقت، لأن التراجع عملية تراكمية، وبالتالي، اذا كان الصمود ممكناً اليوم، قد لا يكون كذلك غداً أو بعده…
في الموازاة، برزت مؤشرات غير مُطمئنة ترتبط بأسعار الفوائد على الايداعات بالليرة والدولار. وقد وصلت اسعار الفوائد على الودائع بالليرة الى 9 في المئة، وربما 10 في المئة.
وهذا يعني ما يلي:
اولا – كلفة الدين العام للمرحلة المقبلة سوف ترتفع. مثالٌ على ذلك، اذا اعتبرنا ان كلفة الدين الحالي هي 5 مليار دولار سنويا، فانها سترتفع الى حوالي 7 مليار دولار اذا لم يتغير حجم الدين. واذا عدنا الى «ورقة» التوقعات للعام 2020، سيكون حجم الدين وصل الى ما يقارب الـ100 مليار دولار على الأقل، وستكون كلفة تسديد الفوائد حوالي 9 مليار دولار.
ثانيا – كلفة الاقتراض الداخلي سترتفع، وهذا يعني المزيد من الركود في الأعمال، ارتفاع كلفة الانتاج بما يفقد المنتجات اللبنانية القدرة على المنافسة، تراجع القدرات الشرائية للمواطن، بسبب ارتفاع كلفة الاقتراض الاستهلاكي.
بالاضافة الى ذلك، هناك قلق مشروع من أن يشهد الوضع السياسي المزيد من التصعيد، وأن تواكبه اجراءات اضافية قد تُقدم عليها الدول الخليجية في اطار المواجهة المفتوحة مع ايران على الساحة اللبنانية. واذا أضفنا الى ذلك، اقتراب موعد البدء في تطبيق قانون العقوبات الأميركي عل حزب الله، وتأثيراته المحتملة على الوضع المالي في لبنان، سنكون في مواجهة استنتاج مفاده أن الاوضاع المالية والاقتصادية والنقدية دخلت في النفق.
والوضع هنا شبيه بمبدأ قطع الاوكسجين عن الدماغ، انها مسألة وقت، اذا عاد الاوكسجين ضمن الوقت الطبيعي المسموح، يستأنف الدماغ والجسم البشري وظائفه كالمعتاد بلا أضرار، اذا تأخر قطع الاوكسجين عن الوقت «المسموح» يخرج المصاب بأضرار بالغة تصل الى حد الاعاقة، أما اذا استمر قطع الاوكسجين لفترة أطول، تصبح النتيجة الموت المحتوم.