إن مأساة ما بعد جريمة القاع هي أكبر من الجريمة عينها، إنْ لجهة الاستنكار أو الاستنفار أو استحضار أيام الحرب الأهلية البغيضة أم لجهة ردّة الفعل الإنفعالية والسريعة والاتّهامات من هنا وهناك. والأبشع على الإطلاق كان محاولة الاستثمار في دماء أهالي القاع، ناهيك عن أحاديث الخبراء والعلماء على شاشات الخواء الإعلامي ليلَ نهار. والمأساة الكبرى كانت التعامل مع هذه الجريمة وكأنّها جاءت من خارج التوقّعات، وهذا ما يفرض علينا أن نعيد الأمور الى نصابها، والتذكير أنّ ما حدث كان متوقّعاً ومنذ أشهر طويلة، وخصوصا بعد ما نبّهت له السيدة سيغرد كاغ قبل نهاية شهر أيار.
خلال انشغال الطبقة السياسية في لبنان بأوهام الانتخابات البلدية، بادرت الممثّلة الشخصية للأمين العام للأمم المتحدة السيدة سيغرد كاغ الى دعوة النواب الى انتخاب رئيس للجمهورية والابتعاد عن المحازبة الضيّقة التي تعطّل الانتخاب. كما دعتهم الى عدم انتظار التعليمات من الخارج، وحثّتهم على تحمّل مسؤوليّتهم اتجاه استقرار بلدهم ومجتمعهم، مؤكّدة أن لبنان يُعاني «مزيج سامّ من التحديات»، خصوصاً مع وصول النزاع السوري الى بوابة لبنان، بالاضافة الى التورّط اللبناني في النزاع، وهذا ما يدعو الى القلق وضرورة عدم الاستخفاف بالتطورات. كما أشارت السيدة كاغ في حديثها عن المعلومات المتداولة لدى الأجهزة الأمنيّة منذ العام ٢٠١٥ حول الشبكات الإرهابية والخلايا النائمة في لبنان.
قرأتُ حديث السيدة سيغرد كاغ مراراً بحثاً عن ثغرة أو اجتهاد أو إنشاء أو استعراض، فلم أجد سوى كلام يعبّر عن مسؤولية رفيعة واحترام كبير لعقول اللبنانيّين، مسؤولين ومواطنين، وبدقّة متناهية وغير مسبوقة في الخطاب السياسي اللبناني. وأعتقد أنّ حديث السيدة سيغرد كان يستدعي الدعوة الى اجتماع استثنائي لمجلس الوزراء وتفرّعاته الأمنيّة والاقتصاديّة، واعتبار هذا الحديث بمثابة بيان وزاري جديد واستثنائي لمواجهة تحديات النزاع السوري والارهاب ، خصوصاً بعد أن أصبح البيان الوزاري الذي نالت على أساسه الحكومة الثقة باطلاً بعد وقوع الشغور الرئاسي.
لا بدّ من تذكير اللبنانيّين أنّ السيدة كاغ تشرف على أمنهم الجنوبي والبحري حيث العدو الاسرائيلي،وذلك منذ العام ٢٠٠٦ من خلال ١٢٨٠٠ جندي من القوات الدولية في إطار القرار ١٧٠١. والجميع يعرف أنّ تلك المناطق هي الأكثر استقراراً أمنيّاً واقتصاديّاً .ورغم ذلك فقد استغربت السيدة سيغرد ما يروّجه بعض الساسة في لبنان عن مظلة دولية لحماية لبنان وكأنّنا أمام حرب نجوم، مع تأكيدها التزام المجتمع الدولي باستقرار لبنان وأمنه، شرط أن يكون اللبنانيّون منهمكين في البحث عن أسباب الأمن والاستقرار.
بعد جريمة القاع اعترف المسؤولون الكبار أنّ لبنان سيتعرّض الى موجة من الاٍرهاب، ثم الحديث عن تفكيك العديد من الخلايا الإرهابيّة. وهذا ليس اكتشافاً لأنّ هذا ما كانت تحذّر منه السيدة كاغ، فيما تجاهلته الطبقة السياسية بكبارها وصغارها ونخبها وإعلامها، ولا يَجِب تحميل المؤسسات العسكرية والأمنية مسؤولية الشغور والتآكل السياسي والمؤسساتي.
بعد جريمة القاع وحديث المسؤولين الكبار عن موجة عارمة من الإرهاب ستجتاح البلاد، لا يسعنا سوى توجيه الشكر للسيدة سيغرد كاغ على شفافيّتها وحرصها الشديد على لبنان بعد أن تأكّدنا أنّه يعاني «مزيجاً سامّاً من التحديات».