تسنى لي ان اشاهد نهاية فيلم أميركي عن نابغة التكنولوجيا ستيف جوبز السوري الأصل، والذي تبنّته عائلة أميركية ورعت تفوّقه ونبوغه. وقد توقفت عندما سأله صديقه لماذا لم يحاول البحث عن أسرته الأصلية، فأجابه جوبز: «لقد وجدتها.. أتذكر ذلك المطعم الصغير في الشارع الفلاني الذي اصطحبتك اليه اكثر من مرة؟ أجاب الصديق «نعم»، فقال جوبز: صاحب ذلك المطعم هو والدي الأصلي. فسأله الصديق: وهل أخبرتَه أنّك ولده؟» أجابه جوبز»لا لم أخبره بل تركته يتباهى أمام الناس أنّ ستيف جوبز هو احد زبائن مطعمه».
تلك هي العلاقة الأسرية الصعبة، عندما يصبح الأبناء زبائن عند آبائهم، والمواطنون زبائن عند دولتهم. وتلك هي قيم السياحة السياسية التي احترفها اللبنانيّون بكلّ اشكالها، ومنها السياحة الحربية وتحويل لبنان الى حقول رماية للراغبين بتصفية الحسابات الحامية فيما بينهم، وهي لا تختلف كثيراً عن اي سياحة تراثية او بيئية او استجمامية او دينية. وما أكثر انواع السياحة وأساليب ترويجها، وجميعها تقوم على قاعدة واحدة، وهي أنّ ما هو ممنوع هناك مباح هنا.
عندما تُذكَر وسيلة إعلامية لبنانيّة يُذكَر معها الجهة الخارجية المموّلة لها، وكذلك الأمر بالنسبة للقوى السياسية ومن يدعمها، وأيضاً بالنسبة للطوائف والتجمعات. فالشرعية هنا تستمد من مصدر التمويل وليس من القضايا الوطنية الضرورية. عندما يتأكّد اللبنانيّون من توفّر التمويل، يبدأ الترويج السياسي ويتنافس الجميع على إقناع أنفسهم بالانضمام الى هذا التوجّه او ذاك. وعندما تشحّ الموارد يكثر الاعتراض والانتقاد والحديث عن الأصول والضرورات الوطنية والنضالية، ويبدأ البحث عن مصادر جديدة لتعزيز السياحة السياسية ومعها بعض العنف والتجريح من اجل الترويج للخراب الجديد، مع التغني بضعف الدولة ومؤسساتها وقوة أفراد المجتمع وأحزابه.
هنا في دولة السياحة السياسية والحربيّة ، لا تكون قوة الدولة من قوة المجتمع، بل يكون المجتمع أقوى من الدولة والقانون. في جمهورية السياحة السياسية يُستقطب الدبلوماسيّون وإلاعلاميون والأفراد، عرب وإقليميين ودوليين، الى التوغل في غابات التكوّنات اللبنانية، ويصار الى إيهامهم أنّهم أصبحوا من اهل البلاد، يقدّمون النصائح ويديرون الألعاب السياسية وأحياناً يصنعونها. وبعض هؤلاء أدمنوا السياحة السياسية في لبنان فاستقرّوا هنا بعد انتهاء مهمّتهم الدبلوماسية. ومشهود للبنانيّين نجاحهم في السياحة الاجتماعية، لذلك تفضّل الأسر العربية المجيء الى لبنان إذ أنّهم يندمجون مع الأسر اللبنانية بسهولة ويدخلون بيوتهم، والرجال يصطحبون الرجال والنساء مع النساء والأولاد مع الأولاد. السياحة الاجتماعية لبنانية بامتياز.
السيدة سيغرد كاغ، الممثل الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة والمسؤولة عن تطبيق القرار الدولي ١٧٠١، كانت تعتقد أنّ اللبنانيّين يعرفون ان القوات الدولية في جنوب لبنان هي من اجل حماية لبنان من العدو الاسرائيلي. ولم تكن تعرف أننا ننظر اليهم على انهم جماعة سياحية عسكرية، وأن وجود ما يقارب ١٣٠٠٠ جندي دولي في الجنوب على مدى احد عشرة عاما جعلهم المصدر السياحي الأوّل، ومعهم المنظمات الدولية وقبائلها المنتشرة في الادارة والمدن والأرياف، فهم ايضاً بنظر اللبنانيين سواح سياسيين. وربما تكون بعض المنظمات الدولية نفسها قد ساهمت في تعميم هذه الفكرة.
ان الجنون السياحي السياسي يجب ألاّ يمنعنا من تقدير الجهود الاستثنائية للسيدة كاغ من أجل لبنان، وآخرها مأساة النزوح السوري والتي لا تشبه السياحات السابقة وقد تتحول الى كارثة كبرى. ومن المفيد ايضاً أن تنقل السيدة كاغ الى من يهمه الأمر أنّه لا يزال في لبنان مواطنون لا يعتبرون أنفسهم زبائن في جمهورية السياحة السياسية اللبنانية.