أما وقد استقالت الحكومة في اليوم الثالث عشر من ثورة 17 تشرين استجابة لمطالب الشعب الذي يطالب بأكثر من ذلك بكثير. فثمة سؤال منطقي، ليس منطقياً فحسب بل ضروري أيضاً، ويتصل بذلك «المجهول» الذي ينتظره فرقاء السلطة الآخرون في لبنان قبل الإقدام على خطوات سريعة وحاسمة منعاً للانهيار الكبير، وفتحاً لباب المعالجات.
السكوت المريب، وهو أخطر من الفراغ، ليس مقبولاً من مكونات السلطة، كذلك من المجتمع الدولي الذي يكتفي حتى الآن بالمراقبة ودعوات التهدئة، باستثناء الموقف الدّال للبابا فرنسيس الذي أشاد بصرخة الشباب اللبناني أمام التحديات، وموقف باريس الداعي للإسراع من دوامة التذاكي اللبناني ضماناً لوحدة البلاد ومصالحها.
في المحصلة، فإن إستقالة رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري جاءت شجاعة، وهي ضرورية لصون السلم الأهلي ولإحداث صدمة إيجابية وإن كانت تعطي زخماً لمطالب التغيير. ويسجل للرئيس الحريري أنه استعاد، شكلياً، خطاب والده الرئيس الشهيد رفيق الحريري السياسي والوطني لناحية احترام إرادة الناس، والسعي، رغم التعقيدات والضغوطات لوقف التدهور، وتجنيب البلاد المخاطر الامنية والاقتصادية والمعيشية، مستعيداً شعار والده الشهير «المناصب تأتي وتذهب، لكن المهم كرامة وسلامة البلد» و»ما حدا أكبر من بلدو».
وفي تقدير أوساط سياسية متابعة فإن استقالة الرئيس الحريري وإن جاءت «متأخرة نوعاً ما»، إلا أنها موضع تقدير وطني عابر، خصوصاً في استحضارها لغة شهيد الاستقلال الثاني. وبحسب هذه المصادر «كان باستطاعة الحريري تقديم استقالته قبل حصول اشتباكات الشارع التي لامست خطوطاً حمراً، سيما وأنه منذ إنطلاق الثورة يمثل نقطة تلاق وحاجة سياسية ووطنية كبرى، وكان عليه توظيف هذا الزخم لخدمة الشعارات الاصلاحية من جهة، ولطمأنة الشارع اللبناني الغاضب من جهة ثانية»، وتضيف المصادر «باستطاعة حزب الله بهذه اللحظة إيجاد أكثر من جبران باسيل، لكن لا الحزب ولا أي طرف آخر باستطاعته إيجاد شخصية تجمع تقاطعات سياسية ووطنية وخارجية كالتي يمتلكها الآن سعد الحريري»، وإن كان تقدير الموقف وتحديد التوقيت ملك للحريري شخصياً.
موقف بعبدا
ما يستحق التوقف عنده بشكل معمق في الحركة السياسية خلال اليومين الأخيرين، هو المواقف التي تنقل عن قصر بعبدا، وتشكل امتداداً لسياسة الهروب إلى الأمام و»إنكار» ما يجري. يبدو رئيس الجمهورية ميشال عون، وفق ما يتم تسريبه، متمسكاً بشروط تعجيزية أمام أي تغيير، كربط إخراج الوزير جبران باسيل (بوصفه شخصية تجمع أغلب الأطراف على اعتبارها استفزازية) من أي تشكيلة حكومية عتيدة، بإستبعاد الرئيس الحريري، أو التخوّف من انعكاس تحييد باسيل على صورة الرئاسة وصورة عهده واستمرارية التسوية الرئاسية، ناهيك عن خلافات العائلة الصغيرة من بنات وأصهار وما يتصل بها من حسابات وطموحات. فوق ذلك، ما تمّ تسريبه لناحية ما تسميه مصادر الرئاسة «المعايير الموحدة» في عملية تشكيل الحكومة العتيدة (تكنوقراط رئيساً وأعضاء)، وهو كما لا يخفى مسٌّ خطير بالدستور على غرار التلاعب الذي حصل خلال عملية تشكيل الحكومة الحالية، مع ما يعنيه أي مسّ بالدستور راهناً من نقل للأزمة إلى مستويات جديدة.
في السياق عينه، الموقف الذي روّج أمس قبيل وصول الحريري إلى بعبدا لتقديم استقالة الحكومة بعد تلاوتها من بيت الوسط، لناحية القول بأن «رئيس الجمهورية سينظر بقبول استقالة الحكومة أو الطلب من الحريري التريث بقراره»، مع ما يعنيه هذا الكلام من هرطقة دستورية (المادة 69)، ومحاولة لتسجيل مكاسب سياسية وشعبوية في لحظة وطنية شديدة الخطورة.
متى الآخرون؟
الحال أن هناك خطوات مطلوبة وضرورية من غير الحريري، فثورة 17 تشرين التي تدخل يومها الرابع عشر، حددت استقالة الحكومة كخطوة في سياق خارطة طريق لرسم ملامح التغيير المطلوب، خصوصاً وأن مكونات السلطة تبدو غارقة في إرباكها، تارة تعوّل على تقلبات أحوال الطقس لتشتيت المتظاهرين، وتارة أخرى إلى جرّ المعتصمين في الساحات إلى إشكالات وصدامات متنقلة تحت ذريعة فتح الطرقات. وما شهده وسط بيروت أمس من عمليات تشبيح وتخريب وحرق وتكسير طاولت خيم المعتصمين مترافقاً مع شعارات طائفية ومذهبية تستنطق المشهد العراقي حيث الحشد الطائفي يتلذذ باستفزاز وقتل المدنيين.. كل ذلك يحيل إلى ضرورة التنبه من مزالق إدخال البلد رويداً رويداً بأجواء استعادة الحرب الأهلية.
وإذا كان أغلب الظن أن التخريب الذي حصل مرتبط باستشعار بعض القوى قرب استقالة الحكومة وبالتالي حجز سقف ومكان للمرحلة المقبلة، فإنه بلا شك أفقدَ مكونات السلطة السياسية شرعيتها الأخلاقية، بعدما فقدت شرعيتها الشعبية، وسط علامة استفهام كبرى عن تأخّر الجيش وقوى مكافحة الشغب في التدخل لمنع وصول المشاغبين، ووقف الشعارات الطائفية والممارسات التشبيحية التي حصلت في وسط العاصمة.
استقالة الحكومة مهمة لكنها لا تكفي، كون المطالب الأخرى ليست أقل أهمية فإسقاط الشرعية الشعبية لا تمسّ الحكومة ورئيسها فحسب، بل العهد كاملاً والمجلس النيابي وبقية المطالب التي باتت معروفة؛ فثورة شابات وشباب لبنان لم تكن لاسقاط الحكومة فقط، هي تريد قانوناً انتخابياً عادلاً، ومجلساً نيابياً يعكس خيارات الناس بشفافية وصدق، تطمح لرؤية اقتصادية تعيد التوازن إلى اقتصاد لبنان ونقده الوطني، وتعالج ركود قطاعات الانتاج، لقانون مكافحة فساد حقيقي يمنع الهدر ويستعيد الأموال المنهوبة والأملاك البحرية، لعدالة اجتماعية تمتلك حلولاً لقروض الإسكان وضمان الشيخوخة مع سياسة صحية عامة عادلة وفاعلة، لإستقلال القضاء وإصلاح التعليم الرسمي، لكهرباء دائمة وماء ونظافة وبيئة سليمة، لحل مشكلة اكتظاظ السجون بدون سبب، ولقانون عفو بأفق وطني لا انتقائي وتحريضي.. باختصار ثورة شباب لبنان لبناء دولة مدنية حضارية، ضد دولة المزرعة والمحاصصة، واستقالة الحكومة ليست سوى خطوة في سبيل تحقيق ذلك.