IMLebanon

سنّ الفيل «الضيعة»: تاريخ «تلتهمه» الشقق الفخمة

 

 

لم تعد سن الفيل ضيعة، ولا حرش تابت حرج صنوبر، ولا جسر الباشا بستان ليمون. الضيع الثلاث أكلها الباطون شيئاً فشيئاً، حتى أخرجها من هويتها وطابعها التاريخي. تلك الضواحي القريبة من العاصمة بيروت أصبحت على شاكلتها «باطون بباطون»، مع فوارق بسيطة

 

تجمع سن الفيل وجسر الباشا وحرش تابت بلدية واحدة، لها قصر بلدي ضخم (جرى افتتاحه عام 2015) وشيّد مكان الملعب البلدي الذي كان متنفساً لشباب المنطقة. عوّضت البلدية غياب الملعب في أن جعلت من ضمن القصر البلدي مستوصفاً ومسرحاً ومكتبة. تحوّل الملعب من متنفّس إلى باطون مغلق. هذا لا يلغي عمل البلدية، وفق موقعها الإلكتروني، على إنشاء حدائق عامة منها حديقة الحرج وضهر الجمل وحديقة السيدة بالإضافة إلى تشجير أكثر من 30 ألف متر مربع.

 

يتشكّل وسط سن الفيل من شوارع قديمة تتقاطع بما يشبه «المربّع التاريخي» للبلدة، منها شارع ديمتري حايك وشارع سامي شاوول وشارع الأمير فخر الدين وسواها.

 

 

قصور عدة تشكّل بحدائقها واحات وسط «هجمة» الإسمنت (مروان طحطح)

 

في هذا المربّع الهادئ تتسّع الشوارع والأرصفة النظيفة والمشجّرة. إلى جانب البيوتات والقصور العتيقة، تعلو المباني الحديثة المؤلّفة من عشرات الطبقات والشقق الفخمة التي لا يملك ثمنها أبناء المنطقة. هنا تتكاثف الستوديوات وشركات الإنتاج الناشئة حديثاً، إلى جانب تلك القديمة مثل «ستوديو بعلبك» الذي كان يوماً أهم ستوديو للإنتاج في العالم العربي. في هذه الشوارع يوجد مسرح كركلا أو «الإيفوار» سابقاً، وكان يعرف أيضاً بـ«سينما البينغو»، قدّمت فيه فرقة كركلا عروضها لسنوات، قبل أن تنتقل ملكيته إلى عائلة كركلا نفسها فحمل المسرح اسم الفرقة.

 

«قصر نورا»

في هذه الشوارع في سنّ الفيل يتداخل الطابع الثقافي بالنمط البرجوازي في العمارة… قصور عدة تشكّل بحدائقها واحات وسط «هجمة» الإسمنت. منها قصر الرئيس أمين الجميل، وقصر شارل حلو الذي سكنه الرئيس فترة ولايته ثم عاد إلى أصحابه، وقصر نورا الذي تختلف حوله الروايات. يجذب «قصر نورا» الأنظار لاتساع سوره وارتفاع الأشجار المحيطة به. يخيّل لعابر السبيل أن هناك قصراً ضخماً يحتجب خلف أشجار الصنوبر والسرو، لكن القصر سوّي بالأرض ما عدا السور وغرف الحراسة. شيّد القصر على مساحة واسعة وحيكت حوله مرويّات شعبيّة كثيرة. إحداها تقول إن اسمه يعود إلى فتاة فلسطينية مسيحيّة أحبّها أمير سعودي (ربما هو الشيخ عبد الرحمن الطبيشي) واشترى لها العقار الكبير وشيّد القصر باسمها. مالكو القصر غادروه وأصبح لاحقاً كومة من الحجارة المستطيلة التي تنعكس عليها الآن أشعة الشمس. يبدو المكان من الخارج هادئاً تماماً، إذ إن أسواره وأبوابه الحديديّة موصدة منذ زمن فالصدأ يتآكل أغلالها. لكن الهدوء «نسبيّ»… أصوات التعذيب لم تغادر المكان، السكان القريبون من القصر الذي كان يوماً هادئاً وجميلاً يذكرونها جيداً.

سن الفيل ـــ النبعة متلازمتان ظاهرياً ومنفصلتان إدارياً وبلديّاً ومن جهة الاندماج السكاني

«معذِّبون» كثر تعاقبوا على القصر. بداية الحرب استوطنته الميليشيات المسلّحة، ثم قبع فيه الجيش السوري حتى العام الثاني من الثمانينات. بعد ذلك، تحوّل مركزاً للشرطة العسكرية في الجيش اللبناني بين منتصف الثمانينات وحتى منتصف التسعينات، وفق أحد السكان. لاحقاً، بيع العقار وبات بحكم الشاغر إلا من الذكريات البشعة التي تحتل رؤوس جيرانه القدماء وبعض المخلّفات في غرف الحراسة. يمكن النظر التسلّل إلى تلك الغرف من خلف شبابيكها المطلّة على الشارع العام، على أرض غرف الحراسة أقراص مدمجة وكنبات مخلّعة وصور قديسين ورسومات على حيطان «لم تسقط» بعد. كان القصر جميلاً من داخله، «جنون» هكذا يتذكّره المختار طانوس رزق. يذكر أيضاً سبيل المياه الذي «مدّه أصحاب القصر وكان السكان يأتون لملء أجرار الفخار منه». مع الزمن، شحّ جرن المياه الظاهر في التصوينة الخارجية للقصر. والعقار الذي تعاقب عليه «المعذِّبون»، تعاقب عليه أيضا العقاريون الذين لم يفعلوا به إلى اليوم أي شيء. لكن هذا لا يعني أن العقاريين لا يترقّبون التوقيت المناسب. العقاريون لا يرحمون. ما يردعهم اليوم هو الوضع الاقتصادي وكبر مساحة العقار. ربما لاحقاً سيعلو على أنقاض القصر وذكرياته برج تجاري أو سكني ضخم، وهذا ما يتخوّف منه السكان.

 

محيط من التناقضات

يستحضر المختار رزق ضيعة سن الفيل يوم كانت كلّها صنوبر وفيها أشهر بساتين الليمون. يروي المختار: «كنت أتسلّق وأبناء جيلي أشجار الصنوبر وننتظر الزوّار ممن يأتون لقضاء عطلة نهاية الأسبوع في أحراج المنطقة»، ويضيف وعلامات السعادة ظاهرة على وجهه «الزوّار كانوا يدقّوا ويغنّوا هون بالحرج». للضيعة عائلاتها القديمة منها كحالة، شاوول، عازار، رزق، مطر، مجدلاني وجبيلي… ثم انضمت إليها عائلات من مهجري الدامور «الذين لجأوا للمنطقة وبقوا فيها» كما يؤكد المختار، وكذلك من القليعة ودير ميماس ومرجعيون. شيئاً فشيئاً، اتّسعت رقعة التناقضات في المنطقة الواحدة. سن الفيل ــــ النبعة مكانان متلازمان ظاهرياً، غير أنهما منفصلان إن من الناحية الإدارية والبلديّة أو من جهة الاندماج السكاني.

 

 

أصوات التعذيب لم تغادر «قصر نورا»(مروان طحطح)

 

يقول المختار «ما إلنا علاقة ببعض، يفصل بيننا وبين النبعة تقاطع الطريق حيث نصبت البلدية العلم اللبناني».

ثمة «متلازمة» مكانيّة ثانية ترتبط بسنّ الفيل وتنفصل عنها في الوقت نفسه: سوق الأحد. هذا السوق المتنازع عليه بين بلديتي سن الفيل وبيروت يمثّل «الكارثة الكبرى» بنظر أهالي سنّ الفيل. الزحمة التي يسبّبها واحدة من مشكلات السكان مع السوق الذي يفصل بينه وبين المنطقة نهر بيروت. لكن النزاع العقاري يحمل في خلفيّاته نزاعاً طبقياً «مبيّتاً». يعتقد الأهالي أن سبب المشكلة في «لعنة» المراسيم الجمهورية. ففي عهد الرئيس الأسبق ميشال سليمان صدر مرسوم جمهوري يسمح لبلدية بيروت بتشغيل سوق الأحد. وقد تقدّم أهالي سن الفيل بطعن أمام مجلس شورى الدولة لاسترداد السوق الذي من «حصّتهم» كما يقولون. لعنة المراسيم كانت قد أصابتهم أيضاً في عهد الرئيس السابق إميل لحود، الذي أصدر مرسوماً جمهورياً يقضي بالسماح بإنشاء جسر بين برجي فندق «الميتروبوليتان» الذي بات أحد معالم البلدة. أبيحت مخالفة التنظيم المدني أمام رأس المال والاستثمار الخليجي، لكن مشكلة السكان مع «البرجين» ليست قانونية وحسب. المشكلة لها وجه «ديني» بعدما «انزعج مالك الفندق من صليب كنيسة القديسة ريتا القريبة» كما يقول أحدهم، ويتابع «لم ننزع الصليب ولم نخضع… بل كبّرنا الصليب». غير أن «صلبان» سن الفيل عديدة. وبعيداً من «غيرة الدين»، يحنّ أحد المهندسين الساكنين في شارع سامي شاوول إلى زمن «كان فيه كل شيء أخضر». أما اليوم «ثمة مرض يضرب الصنوبر في حرش تابت، والبلدية لا تحرّك ساكناً، قالوا سنرشّ المبيدات للشجرات التي أمام منزلك لكننا لا نستطيع الإحاطة بكل الأشجار» يقول المهندس متأسّفاً. يشبّه سن الفيل ببدارو قبل أن تصبح الأخيرة شارعاً حياً في الليل، فيما أصبحت سن الفيل مركز جذبٍ للمصارف والمراكز التجارية والشقق التي تساوي «ملايين الدولارات»… سنّ الفيل ضاحية جاذبة لكلّ ما يجعلها «مدينة» آخذة بالتوسّع العمراني على حساب الأحراج والبيوت العتيقة.