استحضرت مجزرة «داعش» في سيناء أمس، مشهد الأنبار العراقية، وإن كانت كل المجازر التي يرتكبها التنظيم تنويعاً على طريق هدف واحد: تقويض الدول العربية ونسف نسيجها الاجتماعي، واقتيادها إلى مذابح لا تتوقّف، على طريق الخراب الشامل.
لا يجدي هنا تكرار السؤال القديم- الجديد: «مَنْ هو داعش»، مَنْ زرعه ومَنْ درّبه وسلّحه لينقضّ على الجيوش والمدن العربية التي يختارها، وفق توقيته؟ وإذا كان المرجّح أن القذائف والصواريخ التي يستخدمها «داعش» في سيناء، مصدرها ليبيا حيث الفوضى والفلتان سيّدان، فالمرعب أن تتكرّر المجزرة التي تدفع ثمنها مصر وجيشها وشعبها، آفاقاً قاتمة تجعل إعادة الاستقرار إلى البلد مهمة عسيرة.
مصر ليست العراق حيث المحاصصة الطائفية في الحكم فخّخت مشروع إعادة بناء الدولة. ومصر ليست اليمن حيث تمدُّد الأصابع الإيرانية شَجَّعَ الحوثيين على المغامرات التي استغلّها رئيس مخلوع ما زال يخدع الجميع ثأراً لنزوله عن عرش السلطة.
لكنّ السؤال لا بُد أن يُطرح عن قدرة «داعش» على التسلُّل إلى مصر، لولا التفجيرات والاغتيالات التي استهدف آخرها النائب العام هشام بركات، ولولا حال الصراع المُتفاقم مع جماعة «الإخوان المسلمين»، الذي يصرّ الحكم على معالجته بالحل الأمني وحده، فيما الجماعة لا تنبذ العنف علناً، ولو ارتكبته تنظيمات ليست على علاقة بـ «الإخوان».
وإن بات معلوماً أن تياراً في الجماعة يصرّ على تأجيج الصراع في الشارع، والتصدّي للدولة بكل رموزها، رداً على اعتمادها الحل الأمني، وإصدار الأحكام القضائية المشدّدة في حق قادة «الإخوان»، فالواضح في المقابل أن تلويح الرئيس عبدالفتاح السيسي باستعجال تنفيذ تلك الأحكام (وبينها إعدامات) ليس من شأنه تهدئة الصراع. ومن بوابته ونوافذه، تتسلل رياح العنف، لتُلحق مزيداً من الضرر بالدولة وقدرتها على الصمود في وجه الإرهاب العابر للحدود.
مرة أخرى، وعلى رمال سيناء وفي الجيزة وضاحية 6 أكتوبر، ترتسم الخطوط السود لمؤامرة، قد نتكهّن بها من دون قدرة على ترقُّب فصولها. مضت سنة على دولة «داعش» في الموصل، لكنّ «داعش» يتمدّد، يخلط الأوراق، يضرب يميناً ويساراً، من العراق والخليج إلى تونس، ويهزّ مصر في يوم الأربعاء الأسود. ليست في مصر نعرات مذهبية وطائفية، لذلك يتّهم تنظيم أبو بكر البغدادي، أكبر جيش عربي بـ «الردّة»، وهو الذي كان مفترضاً أن يشكل طليعة «القوة العربية المشتركة» للتّصدي لإرهاب نكبة الدول الفاشلة في المنطقة.
عشرات الضحايا يوم الأربعاء الأسود، سقطوا برصاص «داعش» وقذائفه، وإن لم يكن مستغرباً أن يحمّل بعض الأحزاب أو التيارات في مصر، الحكم وفشل الحل الأمني، مسؤولية تغلغل «داعش» وتحدّيه الجيش المصري، فكل الأحزاب والقوى السياسية تتحمّل مسؤولية في إعادة صوغ مشروع للمصالحة الوطنية.
وحده هذا المشروع الذي لا يدفع أي طرف إلى الرهان على تركيع الدولة بالعنف- وإن لم يرتكبه- من شأنه تصحيح مسار الحل الأمني، لئلا يتحول حرب استنزاف لمصر وجيشها، ومواجهة يومية بالدم لتركيعها بقذائف البغدادي وصواريخه.
لكنّ الشرط الأول والأكيد لمعاودة فتح أبواب الحوار، هو أن يتعهّد الجميع، حكماً وأحزاباً وتيارات، الإصغاء والنقاش، بدل استعادة معزوفات التخوين والتكفير والتضليل، العمالة والبطش. وما دام هناك مَنْ يدّعي التبصُّر بحقائق وحيدة مطلقة، أو حق تكفير الآخر وإقصائه، سيُزرع مزيد من الألغام في كيان الدولة، ويُفتَح مزيد من المعابر لتسلُّل «داعش».
المعبر الكبير، صراع الدولة و «الإخوان»، رقاب الجميع تحت سيف العنف. هل يكفي لتبديد صدمة سيناء ومشاريع الانتحار العربي الجماعي، أن نلعن المؤامرة، ثم نلعنها ونتفرّج؟