ليس في المادة الخامسة والخمسين من الدستور اللبناني أي التباس: «ان المجلس الملتئم لانتخاب رئيس الجمهورية يعتبر هيئة انتخابية لا هيئة تشريعية ويترتب عليه الشروع حالاً في انتخاب رئيس الدولة دون مناقشة أو أي عمل آخر».
عبارة «دون مناقشة أو أي عمل آخر» كافية للجدل. لكن «الشروع حالاً في انتخاب رئيس الدولة» أيضاً، وتسبقها في المنزلة. والتشديد في هذه المادة الدستورية بالتحديد على أنه «رئيس الدولة» وليس «رئيس الجمهورية» كما في مطلع المادة نفسها له دلالته.
بالتالي، المجلس الذي لا يشرع حالاً في «انتخاب رئيس الدولة دون مناقشة أو أي عمل آخر»، هو مجلس لم يلتزم بما يطلبه منه الدستور. بمعنى ما، هو تمرّد على واجبات أناطها الدستور بالنواب: الالتئام، الشروع، الانتخاب، لرئيس الجمهورية، بتذكير أنه رئيس الدولة، أي أن الاستمرارية الكيانية للدولة ونظامها الدستوري في الاعتبار، وأنّه ينبغي أن يفقد المجلس في فترة الالتئام والشروع هذه صفته التشريعية الى حين، كي لا يكون انتخاب الرئيس خاضعاً لحسابات تتعلّق بمقايضة تشريعية سابقة عليه.
لكن ما لا شك فيه انّ المشرّع لم ينسج هذه المادة لشغور يطول عاماً ونصف العام، ومشرّع الى ان يطول أكثر. هو يتحدث عن عملية انتخابية يريدها ان لا تستمر لأيام طويلة معجونة بالمناقشة والأعمال الأخرى، وليس عملية تطيير منظمة لجلسات الانتخاب من قبل الكتل البرلمانية تدوم عاماً ونصف العام. الحيثية الأخيرة حيثية «تمرّدية» بامتياز وليس فقط «تعطيلية». يبقى ان من لا يستطيع قمع التمرّد، ومن منا بمستطاعه قمع «تمرّد حزب الله» وحلفائه داخل البرلمان أو خارجه أساساً، عليه أن يتعامل مع نتائجه كأمر واقع. بعض الأمر الواقع ننتج له تسمية مجاملة، لكنها غير دقيقة، نسميه «تشريع الضرورة». هذا في الوقت الذي أمامنا مادة تقول فيه بصريحها: انه لا ضرورة لتشريع الضرورة قبل «الشروع حالاً في انتخاب رئيس الدولة».
المفارقة تبدأ من كونه «مجلس الضرورة العبثية»: المجلس تمرّد على واجبه المتمثل في انتخاب رئيس للجمهورية، وفوق ذلك جوّز التمديد الذاتي لنفسه مرّتين، والوقت يمرّ سريعاً وسنجد أنفسنا أمام استحقاق التمديد ثالث، ما دامت المعطيات الداخلية والاقليمية على هذا النحو، الا انّه سيبقى في الوقت نفسه المجلس القائم طالما هو لم يحل نفسه، وطالما ظلّ بمستطاعه ان يمدّد لنفسه، وطالما فشل الداعون لحله والتوجه الى انتخابات جديدة في تشغيل مفاعيل المادة السابقة مباشرة في الدستور، الرابعة والسبعين. ستكون شرعيته طيفية نعم، وسيكون خرقه الدستور في عدم انتخاب رئيس نافراً أكثر فأكثر نعم، لكن اعتباره غير موجود بشكل كامل، ومطلق، سيعني أنّ المؤسسة التشريعية لم تعد موجودة تماماً، وهو يتناقض مع مبدأ استمرارية الدولة والنظام الدستوري في حال لم تكن هناك لحظة محددة للاحتكام الى الهيئات الناخبة.
المجلس خرق أحكام المادة الخامسة والسبعين بشكل متعاظم لأنه لم يشرع في انتخاب رئيس للجمهورية ولو أنه، احترم، سوى وقت تمديده لنفسه مرة ثانية، التزامه بعدم المناقشة والتشريع قبل انتخاب الرئيس. احترم عدم التشريع قبل انتخاب الرئيس عاماً ونصف العام دون ان يؤدي ذلك الى انتخاب الرئيس. أن يطلب من المجلس حالياً ان يصادق على مسائل حد ادنى لاستمرارية الدولة فهذا، بشرط ان يتحدّد بشكل يجنّب المزيد من التعطيلية والتوترات، أمر طبيعي في وضع غير طبيعي بالمرة. عندما يتمرّد المجلس على الدستور بهذا الشكل، لا يصير عدم التزامه بما هو أقل خطورة من ذلك بهذه الحدّة الاشكالية، لكنه لا يجوز اعتباره «تشريع ضرورة»: بالأحرى، ما دام المجلس «لحق وتمرّد« على الدستور، فلا بأس من «تسهيل مرور شكلاني» لما من شأنه أن يؤجّل المزيد من التصدّع والتآكل في مؤسسات وجهاز الدولة.
ما يهم عملياً هنا هو ان لا يكون «تشريع الضرورة» هذا توطئة لتمغيطه شيئاً فشيئاً بحيث يعود المجلس هيئة تشريعية عادية مع استطالة الشغور اكثر، بل في جعله هيئة تشريعية اكثر كلما تمادى الشغور اكثر، وكلما ابتعدنا عن آخر استحقاق انتخابي أكثر. وطبعاً هذا الخطر حاضر وبقوة.