يعتقد الرئيس دونالد ترامب أنه مفاوض استثنائي وغير مسبوق، لذلك تصعب قراءة قراراته. ألم يلغِ قمته مع الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، وبعد أقل من عشرة أيام عاد عن قراره، وها هو اليوم يجلس وجهاً لوجه في سنغافورة مع الزعيم الذي لم يجرؤ رئيس أميركي على عقد قمة مع جدِّه ووالده طوال سبعة عقود؟
أيضاً، ألم يفرض على الصين عقوبات اقتصادية ثم تراجع عنها حالياً، ويكاد يصل معها إلى تحالف اقتصادي، يمكنه تغيير معادلات قامت منذ عقود عدّة؟
سياسة الرئيس دونالد ترامب تقوم على تنفيذ الضد وضدّه، وكأنه يستعد لصياغة نظام عالمي جديد يقوم على أطلال انتهاء النظام الاقتصادي المتعدد الأطراف؟
خلال السنة الأولى من ولايته الرئاسية وعلى نهج شعاره «المصالح الأميركية أولاً»، انسحب من اتفاق باريس للمناخ، وأعاد النظر في التبادل التجاري الحرّ، ونقل السفارة الأميركية إلى القدس، وانسحب من الاتفاق النووي. وفي قمة السبعة، حوّلها من السبعة الكبار إلى واحد زائد ستّة، أي الولايات المتحدة الأميركية وفي مواجهتها فرنسا وإيطاليا وألمانيا وبريطانيا. أبعد من ذلك دعا الدول الستّ إلى القبول بعودة روسيا لتعود القمة إلى قمة الثمانية. لا يهم إذا تخلى الرئيس فلاديمير بوتين عن سياسته في القرم أم لا، وأن يكفّ عن تهديد أوكرانيا أم لا.
يتقدم ترامب إلى الأمام وفي رؤيته كما يبدو ماذا تريد الصين وزعيمها القوي شي جين بينغ وموسكو و«قيصرها» فلاديمير بوتين. هل يعني ذلك تخلّيه عن أوروبا؟
«الترامبية» كما تتوضّح يوماً بعد يوم، لا تحسب حساباً لأحد إلا بما يتوافق مع مصالحها. لذلك يلتقي مع الزعيم الصيني الذي يتحرك وفق ما تقتضي مصالح بكين، وبالتالي تجنب أي انزلاق نحو المواجهة المباشرة.
هذا التوجه «الترامبي»، يطرح أسئلة عديدة لا إجابات عليها: ماذا سيفعل في قمة سنغافورة مع كيم جونغ أون؟ هل يخاطر لينجح، وإلى أي مدى سيصل في مخاطرته؟
قبل أربع وعشرين ساعة من القمة قال خبراء أميركيون «إنه مقابل نزع كوريا الشمالية قوتها النووية ستُقدم لها ضمانات أمنية وفريدة ومختلفة». يضاف إلى ذلك دعم اقتصادي بعد رفع الحصار عنها. فهل يقبل بذلك الزعيم الكوري الشمالي الذي كان حتى الأمس يجلس وراء مكتبه وأمامه الزرّ النووي للضغط على واشنطن وغيرها للقبول به كما يريد؟
جونغ أون، زار بكين مرّتين قبل القمة مع ترامب. فهل لمس بدوره تغييراً في مسار بكين دفعه للقبول بالقمة في سنغافورة؟ بهذا يكون قد استبق التحوّل الصيني وشروط بكين التي لا يمكنه رفضها بسهولة. لا شك أن زعيم كوريا الشمالية ليس ساذجاً ولا خفيفاً، حتى يقفز من ضفة إلى ضفة من دون أن يحسب المكاسب والمخاطر بدقة.
انتهاء قمة سنغافورة حول تفاهمات معيّنة لا يعني تنفيذ بنودها بين ليلةٍ وضحاها. سيأخذ مسار التنفيذ فترة زمنية لا تقلّ عن 24 شهراً حسب تقدير الخبراء. خلال هذه الفترة قد تتبلور اتفاقات إضافية لم تظهر علناً في البداية.. السؤال الواقعي ماذا عن علاقات كوريا الشمالية التي قامت على التعاون النووي والعسكري خصوصاً الصاروخي منه؟
ليس سرّاً أنه يوجد تعاون نووي إيراني – كوري شمالي. أكثر من ذلك، إن هذا التعاون النووي حتى ولو كان محدوداً حصل مع سوريا. الأهم هو التعاون الصاروخي. لا شك أنّ إيران وسوريا طوّرتا سلاحيهما الصاروخيين بالتعاون مع كوريا الشمالية. المنطق يقول إن تطلب واشنطن من الزعيم الكوري وقف هذا التعاون طالما أنه أحد أهداف «الإدارة الترامبية» تخفيض المستوى الصاروخي الباليستي الإيراني. إذا حصل ذلك فإن تحولاً عميقاً وتاريخياً يكون قد تحقق في الشرق الأوسط.
الرئيس دونالد ترامب الذي تجاسر حيث لم يتجرأ رئيس أميركي قبله في عقد قمة مع زعيم كوريا الشمالية، يريد أن يدخل التاريخ عبر المفاوضات، التي يقول إن لا أحد يجيدها مثله. علماً أنه يفاوض كرجل أعمال وأيضاً كرئيس للولايات المتحدة الأميركية. إذا ما نجح ترامب في سنغافورة، فيستطيع حينها أن يتوجه إلى خصمه الآخر آية الله علي خامنئي، ومعه نهجه في المفاوضات وفي الحصول على ما يريده على قاعدة: «منح ما هو ممكن وليس ما يطلبه المفاوض منه». في هذا بداية لتغيير عميق وواسع للشرق الأوسط حاضراً ومستقبلاً.
أبعد من ذلك، قد يدفعه نجاحه إلى فرض شروطه على الحلفاء الأوروبيين منذ أكثر من قرن. لكن لا يمكنه «بيعهم» ولا التخلي عنهم مهما كانت توجّهات استراتيجيّته السياسية والاقتصادية معاً، التي تتجاوز في تطبيقها كل «الخطوط الحمراء» إلى درجة أن دولة جارة وحليفة مثل كندا اعتبر رئيس وزرائها جاستن ترودو أنّ فرض الضرائب الأميركية على بلاده يُشكل «إهانة» لكندا التي تُعتبر شريكة معها بالدم منذ قيامهما.
قيام نظام دولي واقتصادي جديد، لا يمكن أن يتم بعد قمة مصالحة ولو مع كوريا الشمالية ولا بالاتفاق الحذر مع الصين وروسيا، من دون الخوف من انزلاقة تنتج أخطاراً غير محسوبة تجعل من كل المبادرات الخلاّقة مبادرات تشبه دخول «الفيل إلى متجر للخزف».