Site icon IMLebanon

السنيورة… العودة إلى الأساس

 

لفؤاد السنيورة، رئيس حكومة لبنان الأسبق، موقع خاص في التجربة السياسية والوطنية اللبنانية ما بعد عام 2005 واغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري.

قبل ذلك، لاقى وزير الدولة للشؤون المالية ولاحقاً وزير المالية في حكومات الحريري الأب، من اللبنانيين ما يلاقيه وزراء المال عامة في لبنان وخارجه. هم في العادة فصيلة غير محبوبة من الوزراء، يرى فيها المواطن شريكاً في جيبه غير مرغوب فيه، ولا بضرائبه ولا بسياساته النقدية والمالية. تتضاعف قلة الإعجاب بوزراء المال حين تمر البلاد بظروف اقتصادية صعبة، وفي لبنان الصعب هو الثابت والرخاء هو المتغير.

لم تظهر على فؤاد السنيورة ملامح القائد السياسي الذي سيصيره بعد اغتيال الحريري. قيادي من نوع خاص ترك بصمة شديدة الوضوح في تاريخ رئاسة الوزراء في لبنان. رجل دولة بلا عنتريات، ومناضل سياسي بلا شعاراتية خاوية وزجليات. مبدئي وواقعي في آن. صلب ومحاور في آن. الأهم؛ شجاعة دائمة في الدفاع عن قناعاته وموقعه، بلا أي افتعال أو انفعال، ودائماً من رحم الدستور وتحت سقف النظام العام.

سيذكر تاريخ لبنان كيف خاض فؤاد السنيورة (مع الشهيد محمد شطح وهو شهيد القرار «1701» قبل كل شيء) معركة القرار الأممي «1701»، الذي أوقف الحرب الإسرائيلية على لبنان ووضع خريطة طريق، لا تزال متعثرة، لمعالجة سلاح ميليشيا «حزب الله». وسيذكره التاريخ بأنه الرئيس الذي لم يخضع لابتزاز استقالة وزراء «حركة أمل» و«حزب الله» من الحكومة بغية فرطها، مبقياً بإدارته الحكيمة على نصابها الدستوري، إلى أن أسقطتها ميليشيا «حزب الله» بالعمل العسكري المباشر في 7 مايو (أيار) 2008.

وسيذكره التاريخ بأنه المحرك الأساسي، ومهندس المحكمة الخاصة بلبنان الناظرة في جريمة اغتيال الحريري، والتي يتوقع أن تصدر أول أحكامها غيابياً خلال العام الحالي…

كل هذه السيرة تجعل من فؤاد السنيورة هدفاً ثابتاً لـ«حزب الله»، حتى حين بدا (وهذا غير صحيح) أن الرجل اتخذ قرار التقاعد من الحياة السياسية، بعد عزوفه عن الترشح في الانتخابات النيابية الأخيرة، اعتراضاً على قانون الانتخاب، قبل أن يكتشف الجميع أن تحفظاته كانت في مكانها وأكثر!

تكلم يومها السنيورة معترضاً على التسوية التي أوصلت ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية، وتكلم اعتراضاً على قانون الانتخاب، ولاذ بشيء كثير من الصمت، ليعود قبل أيام إلى الضوء، من باب السجال مع «حزب الله» والحملة التي يديرها ضده تحت عنوان محاربة الفساد.

من تابع المؤتمر الصحافي للسنيورة يعلم أن الشق التقني منه الذي فنّد تهم الفساد هو الأبسط. فكذبة سرقة 11 مليار دولار من المال العام، المتهم بها الرئيس السنيورة سياسياً وإعلامياً، كذبة يعرف من اخترعها أنها كذبة. أما النائب الذي تنكب هذه المهمة باسم حزبه، فبدا بإزاء وثائق السنيورة، كمن يردد «أحاديث نساء الفرن» كما يقول اللبنانيون، دلالة على الهذر والثرثرة…

الأهم من الجانب التقني هي الديباجة السياسية التي ختم بها السنيورة مطالعته، معيداً إلى الخطاب السياسي اللبناني الأدبيات الأصلية التي غابت تحت غطاء التسوية الرئاسية والتي لم يبقَ منها شيء اليوم إلا الاستقرار الهش على مستوى المؤسسات الدستورية.

أعاد رئيس الحكومة الأسبق النقاش في البلد إلى أصله حين قال: «إن الفساد الأكبر والشر الأعظم هو الفساد السياسي، ويعتبر فاسداً سياسياً كل من يقيم دويلات داخل الدولة، ويسيطر على مرافقها، ويغلّ يد القانون عن الوصول إلى أيٍ كان وإلى كل مكان، ومن يعطل الاستحقاقات الدستورية، ومن يحول دون تطبيق الأنظمة والقوانين، ومن يسخِر النصوص القانونية فيجعلها كالجواري في بلاط القوة الفائضة». ولاحظ أن الفساد السياسي «يتفرع (عنه) الفوضى في النظام العام، والارتباك في الوظيفة العامة، واستتباع الدولة ومؤسساتها لصالح الميليشيات وملوك الطوائف (…) ويتفرع عن هذا أيضاً فقدان المعايير وضياع مرجعية الدستور بحيث يمكن المهيمنين أن يعدِلوا الدستور بالممارسة» في إشارة إلى ممارسات «حزب الله» ورئيس الجمهورية ووزير الخارجية جبران باسيل.

ولم يُغفل السنيورة الإشارة إلى «من أدخل نفسه في مأزقه السياسي وتورط في النزاعات الإقليمية والدولية، معرّضاً مصالح لبنان، والتي لا قدرة له على مواجهتها (…)، ويتصرف وكأنه امتداد لنظام أجنبي، ويدخل لبنان في سياسة المحاور والتدخل في شؤون الدول الشقيقة، خلافاً لسياسة الحكومة النأي بالنفس».

إن النص السياسي هذا لا يقل عن وثيقة إعلان حركة تصحيحية للواقع السياسي العام في لبنان، وإعادة تجديد الثوابت السياسية والوطنية وتحديد مواقع الخلل، وتعيين المسؤوليات عن الاضطراب العام في الحياة الوطنية اللبنانية التي تتغطى اليوم بتسوية متداعية فقدت جل مناعتها ووظيفتها وقدرتها، لأنها أولاً وأخيراً محكومة بالعقل الكيدي لـ«حزب الله».

لا يمكن ببساطة تجاوز ما قاله الرئيس السنيورة، كما لن يكون سهلاً تحويله إلى برنامج سياسي يتجاوز «ستاتيكو» التسوية الرئاسية وما تلاها. لكنه كلام في صميم الأزمة اللبنانية، وإعلان شجاع عن أن ظروف المواجهة غير معدومة، وأن السياسة ضرورية للخبز، فليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.