الشعور لدى الرئيس فؤاد السنيورة أن هناك جملة من الموضوعات تشغل التفكير والبال، وهي مشكلات كبرى، لكنها لا تحظى بما ينبغي من اهتمام ووسائل لحلّها، ما يجعل المواطن يشعر وكأنه يركب طائرة بلا قائد وهي تهوي بلا فرامل. بدا على كثير من الصفاء في مقاربته للوضع. فالمقاربة التي قدّمها واضحة وقوامها: إننا نعيش مرحلة مختلفة حيث سقطت حواجز الصمت والخوف، وبالتالي، فإن الإنكار لا يجدي. ولا بد تالياً من الإنصات للشارع ومن الانصياع للفكر الجديد الذي يُعبّر عنه الحراك. ولبنان بعد ١٧ تشرين الأول غير ما قبله، ومن ليس قادراً على رؤية ذلك فهو مخطئ.
برأيه أن مسطرة القياس القديمة قد انتهت. الدولة في حفرة عميقة جداً، والناس تتظاهر وتريد حكومة غير سياسية. فإما أن تبحث على سلّم للخروج من الحفرة، وإما تعمل على الحفر أكثر. هو يرى أن حكومة تكنو سياسية كما يتم الحديث عنها ستكون عبارة عن المزيد من الحفر، حيث هناك مشكلات أعمق وأخطر بكثير لا يزال السياسيون ينكرونها.
الآتي أعظم إذا لم يستفد المرء من الدروس. يقول السنيورة: «ما متنا، ما شفنا مين مات، وقد شاهدنا ما حصل في سوريا وليبيا ومصر والعراق». يستعين بقول مأثور من هنا وطرفة من هناك بدلاً من الكلام المباشر. ويترك لك التحليل. الشخص الذكي هو مَن يتعلم من أخطاء غيره، والشخص العاقل هو مَن يتعلم من أخطائه، أما الشخص الغبي، فهو مَن لا يتعلم من أخطاء الغير ولا من أخطائه. وعليه، فمن لا يتعلم من التجربة ولا يرى المخاطر الحقيقية يكون غبياً.
يروي السنيورة طرفة تقول: «هناك شخص ارتكب ذنباً، فذهبوا به إلى القاضي الذي تبين له أنه مذنب، وقرر معاقبته تاركاً له الاختيار بين 3 احتمالات: إما دفع مئة ليرة ذهبية أو تلقّي مئة جلدة أو تناول مئة قرن من الحر. اختار الرجل المُذنب الاحتمال الأخير، فبدأ بتناول الحر، وما أن وصل إلى القرن الـ50 حتى توقف من شدة الضيق، فطلب الاحتمال الثاني، وحين وصل إلى الجلدة الـ50، توقف من شدة الألم، فقرر الذهاب إلى الخيار الأول بدفع الـ100 ليرة ذهبية».
مغزى الرواية أنه على رغم سوداوية المشهد لا يزال هناك إمكانية للخروج من المأزق، إذا أحسنّا الخيارات، وبدأنا بسلوك الدرب الصحيح في المعالجة وأكملنا حلقاتها، التي تحتاج إلى التناغم بين الحلول الاقتصادية والسياسة المالية والسياسة العامة الداخلية والخارجية للدولة اللبنانية. فالمطلوب اليوم هو تهيئة الأجواء التي تؤدي إلى بدء استعادة «السنتيمتر» الأول من الثقة، الثقة بين المواطن والدولة والثقة بين المواطن والمجتمع السياسي.
فما حصل أنه جرى، خلال السنوات الثلاث الأخيرة وما قبلها، تخريب النظام الديمقراطي بالبلد، وزيادة حدة التقاسم والمحاصصة، وهو ما فجّر هذا الحراك، لأن أطراف التسوية الأخيرة، ارتكزت على مقايضة نأي الجميع عن دور «حزب الله» وسلاحه مقابل إدارة الدولة من أصحاب التسوية الذين تقاسموا الدولة بدل إدارتها. فغاب منطق المحاسبة بعدما أصبحت الحكومة صيغة مصغرة عن مجلس النواب مع الحكومات الائتلافية التي فشلت تجربتها. وتكرارها سيؤدي إلى نفس النتيجة، ولذلك لا بد من البحث عن بدائل ومن استخدام «الكوكا لايت» في تشكيل الحكومة (حكومة مطعمة بنكهة).
والطريق لاستعادة الثقة تبدأ من العودة إلى «اتفاق الطائف» واحترام الدستور، والخروج من عقلية أننا لا نزال في العام 1989 وفي الجمهورية الأولى. والطريق هي باحترام قواعد الاستقلالية والنزاهة وعدم الانحياز لدى القضاء، وفي اعتماد الكفاءة والجدارة لمن يتبوّأ المسؤولية العامة.
وصفة السنيورة هي حكومة تكنوقراط أو اختصاصيين برئاسة رئيس سياسي. لماذا سياسي؟ لأنه لا بد من أن يكون هناك قبطان للسفينة، شخص مرّ في التجارب وتعلم منها ويُدرك كيف يقود المركب، كي يوصل الركاب إلى بر الأمان. برأيه أن هذا الشخص القادر راهناً على هذه المهمة هو سعد الحريري شرط إطلاق يده. هناك أحد لا بد من أن يجنبك «الحر والجلد والمية ليرة ذهبية». لكن إذا مشينا بمسار «حزب الله» وحكومة تكنوسياسية، فإنها لن تعالج المشاكل ولن تخرج الناس من الشارع وستؤدي إلى المزيد من تفاقم الأزمات.
ماذا عن «خارطة الطريق» لإمكانات الخروج من الأزمة الاقتصادية التي وضعها أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله في خطابه أمس الأول، والتي اقترح فيها التوجه إلى الصين وسوريا والعراق؟ يرد السنيورة: يتم التعامل مع الصين وكأنها «حاتم طي». ربما السؤال الذي يجب طرحه: لماذا لا تستثمر الصين في إعادة إعمار سوريا؟
في اعتقاده أن الذهاب في هذا الاتجاه يعني بداية الدخول بمصاعب جديدة. فالاقتصاد لا يعالج بالعصا. وليس هناك من دولة اعتمدت على العصا إلا وانتهت. وبالتالي، فإن استمرار التنكر للوقائع فيما النار من حولنا، لا يحل المأزق ولا يُخرج الناس من الشارع، بل يدل على استعصاء في إمكانية الحل، وغياب الضوء في الأفق. وإذا لم نعرف كيف نداوي الحراك، فهو سيتحوّل إلى شيء آخر. الاستكبار لا يجدي ولا الاستقواء. والعلاج يتطلب دون شك إجراء انتخابات نيابية مبكرة، لكن ليس الآن لأن الأولوية هي لاحتواء النار الملتهبة. ما يؤكد عليه أنه لم يعد لدينا ترف الانتظار والاختيار. ونحن لم نبدأ بعد بدفع الأثمان الفعلية. «ما زلنا في مرحلة قرن الحر».
الدردشة الصحافية مع السنيورة تطرقت إلى جلسة الاستماع لدى المدعي العام المالي بصفة شاهد حول ما يُسمى بـ «الـ11 مليار دولار». هو رَفَضَ الغوص فيها احتراماً لسرية الجلسة، لكنه اكتفى بالقول: «تحدّث بكل النقاط، وأجبته عن كل تساؤلاته. أنا فخور بكل ما أنجزته كوزير للمالية ورئيس للحكومة ولو عاد بي الزمن لقمت بما قمت به».
ولكن لمَ استهدافه القديم – الجديد؟ يجيب: إنها محاولة لـ «تجريم مرحلة رفيق الحريري حتى الآن، ومرحلة ترؤسي للحكومة، واغتيالي المعنوي. وبينما أنا طويت الصفحة، هم ما زالوا خائفين من عودتي أو أي تأثير لي».
وهل يرى أن القصد هو الضغط على الحريري في هذه المرحلة؟ يرد بهدوئه: موضوع الاستدعاء قابل لكل أنواع التفسيرات. المهم ألا تنحاز العدالة. سيظهر امتحان القضاء، نحن اليوم نمرّ بفترة شديدة الصعوبة.