رغم تبوُّئِه موقعَ رئاسة الحكومة في ظروفٍ استثنائية، ورغم الصلابة التي طبعت السياسة التي انتهجها عندما كان في السراي، لم تستطع «صورة» رئيس الحكومة أن تزيل من الأذهان «صورة» وزير المالية. بقي فؤاد السنيورة بالنسبة الى الكثيرين رجلَ الاقتصاد والمال الذي يجيد إدارة الشؤون المالية، وبالنسبة الى البعض «ساحراً» أخفى في قبعته 11 مليار دولار!
إعتاد فؤاد السنيورة أن يتصرّف كوزيرٍ للمال، بصرف النظر عن الموقع الذي يشغله. وهو، على سبيل المثال، كان أوّلَ مَن حذّر في يومٍ من الأيام من استثناء أيِّ فئة من فئات موظفي القطاع العام في زيادة سلم الرواتب (القضاة)، معتبراً أنّ ذلك سيفتح الباب امام زيادات ستشمل في النتيجة كل القطاع العام. وهذا ما حصل لاحقاً، بعدما نال اساتذة الجامعة امتيازاتٍ شبيهةٍ بالقضاة، ثمّ وصلنا الى سلسلة الرتب والرواتب.
«الجلسة» مع دولة الرئيس، حتى لو كانت غيرَ مخصّصة للنشر، إلّا أنها تنطوي على مواقف تفرض نفسَها خارج إطار «مجالس الأمانات». واذا كان من توصيفٍ يمكن إسقاطُه على أسلوب السنيورة في الكلام عن كل الملفات، يمكن الادّعاء انه يعتمد بالعربي، اسلوب Les Fables de La Fontaine.
يتحدث السنيورة بواقعية عن المرتجى من مؤتمر «سيدر»، ويؤكد انّ الدول صادقة في رغبتها بمساعدة لبنان، لكنها ليست جاهزة لترمي أموالها، والناس في تلك الدول يحاسبون حكّامَهم على طريقة إنفاق الأموال. من هنا لا تستطيع الدولة اللبنانية أن تراهن على تسامُح المُمتحِن، بل عليها أن تقوم بواجباتها كاملة لتستحق النجاح في الامتحان والحصول على الأموال. مقولة «لبنان فرفور ذنبه مغفور» لم تعد تصلُح لإقناع الدول بالتهاون وغضّ النظر.
ويذكّر السنيورة بأنّ لبنان سبق وقدّم تعهّدات الى المجتمع الدولي في مؤتمرَي باريس 2 و3 ولم ينفّذها. «ويقول المثل، كذبت عليّ مرة الحقّ عليك، كذبت مرة ثانية الحقّ عليّ».
يقول رئيس الحكومة السابق: علينا أن نعتبر انّ اموال «سيدر» موجودة في مبنى في الطابق العشرين، ولا يوجد مصعد. وللحصول على المال يجب على المرء أن يستقل الدرج. وبالتالي، عليه أن يحصّن وضعه الصحي لكي يتمكّن من إنجازالمهمة بسلامة. وإذا كانت لديه مشكلات في صحته عليه أن يعالجها قبل المجازفة بصعود عشرين طابقاً سيراً على الأقدام، وإلّا سيسقط قبل أن يصل.
يعتبر السنيورة انّ المشكلة الأساسية ترتبط بانحسارٍ كاملٍ للثقة بين الناس والدولة، بين الناس والمجتمع السياسي. ولا يمكن استعادة الحيوية الاقتصادية في البلد، من دون استعادة الثقة. «لبنان اليوم مثل مريض حرارته مرتفعة، يبدأ الطبيب بمحاولة خفض الحرارة قبل أيّ شيءٍ آخر، والحرارةُ عندنا هي انحسارُ الثقة».
عن إجراءات التقشّف التي تمّ اتخاذُها في مشروع الموازنة للعام 2019، يقول السنيورة إنها ضرورية لكنّ استعادة الثقة أهم. «والزورق الذي يقودنا الى الإنقاذ هو النموّ الاقتصادي، في حين انّ التقشّف لوحده يقلّص حجمَ الكعكة، ويؤدّي الى أزمات أكثر ممّا يوصل الى حلول».
لا يبدو رئيس الحكومة السابق مرتاحاً لقرار فرض رسم 2% على المستوردات، ويتساءل ماذا ستكون ردة فعل مَن يستورد من خارج القنوات الشرعية؟ هل سيزيد الكمية؟ «شخصياً، جرّبت طريقة زيادة الإيرادات عبر زيادة الرسوم، لكنني كنت أزيد الأسعار مستخدِماً ميزان الجوهرجي، أي بنسبة طفيفة، وبالقدر الذي لا يؤدي الى تشجيع التهريب. عندما تركتُ المالية عام 1998 جاء خلَفي واعتمد نهج زيادة الرسوم لزيادة الإيرادات، لكن النتيجة كانت أن انخفضت وارداتُ الخزينة، بدلاً من أن ترتفع.
في ملف عودة السياح الخليجيين الى لبنان، والمراهنة على عودة كثيفة لهؤلاء هذا الصيف، يقول السنيورة، إنّ المطلوب في البداية أن يتمّ وقفُ التهجّمات الكلامية على الزعماء الخليجيين. إذ كيف نتوقع قدومَ الخليجيين الى الربوع اللبنانية، إذا كان البعض يهاجمهم ويشتمهم يومياً عبر الإعلام؟ والأمر الثاني الذي ينبغي التنبّه له برأي السنيورة، يكمن في التغيير الذي حصل في السلطة في دول الخليج. «الموجودون اليوم في مركز القرار لا تربطهم بلبنان ذكريات وحنين كما كان الأمر مع أسلافهم. علينا خلق عوامل جذب جديدة لهؤلاء».
ويصل الحديث الى الـ11 مليار دولار، يبتسم السنيورة ويقول: «المصيبة أنهم يستخدمون عبارة الـ11 مليار المسروقة. ألا يعرف هؤلاء كم يضرّون بسمعة البلد عندما يطلقون هذا الادّعاء؟ هل توجد دولة في العالم توافق على إقراض أو مساعدة لبنان إذا كان هناك مَن يقول إنّ 11 مليار دولار قد فُقدت من الخزينة؟
ينتقل الحديث الى بعض الحساسيات التي قد تؤثّر سلباً على الوضع المالي، ومن ضمنها الحساسية المُفرَطة القائمة بين وزير الخارجية جبران باسيل وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وهنا يكتفي رئيس الحكومة السابق بالتعليق: «الشحاذ لا يحبّ صاحبَ مخلاية».
ويرى السنيورة انّ لبنان ليس مثل اليونان. وعدمُ التشابّه هنا لا يُراد به الاعتداد أو الادّعاء ان وضعنا أفضل من اليونان، بل العكس صحيح. «ديون اليونان تحملها في غالبيتها فرنسا والمانيا، وكانت المعادلة من مصلحتي أن أبقيك حيّاً لكي أبقى بدوري حيّاً. لكنّ ديون لبنان مصدرها اللبنانيون. فمَن سيحرص في هذه الحالة على إبقائنا أحياء؟ هناك اعتبارات كثيرة تقتضي المزيد من التنبّه».
أخيراً، وفي غيض من فيض، ممّا أسهب السنيورة في الحديث عنه، نصل الى الوضع العام في لبنان والمنطقة. ويسأل رئيس الحكومة السابق أين صار مبدأ النأي بالنفس لحماية لبنان؟ «هل من الحكمة أن نضع أنفسنا في ممرّ الإفيال؟ المنطقة تغلي، واحتمالات اندلاع الحرب قائمة، حتى لو لم تكن هناك نية لإشعال الحرب. الحروب تقع أحياناً نتيجة خطأ، أو عمل يرتكبه طرفٌ ثالث صاحب مصلحة. فهل من مصلحة لبنان أن يكون طرفاً في الحرب في حال اندلاعها؟ لبنان يجب أن يكون صادقاً عندما يقول إنه سيطبق النأي بالنفس.