مع تفاقم الازمة الاقتصادية – المالية واتخاذها أشكالاً حادة، ذهب البعض الى تحميل أصحاب السياسات المعتمدة منذ عام 1992 المسؤولية الاكبر عن الواقع المزري الذي انزلق اليه لبنان، ومن بين هؤلاء أحد «مهندسي» تلك السياسات الرئيس فؤاد السنيورة. ولكن، كيف يردّ السنيورة على هذا الاتهام، وماذا يقترح للخروج من النفق المظلم؟
يعتبر السنيورة انّ «كل الذين يَتباكون على الوضع الاقتصادي والمالي هم الذين أوصلوا البلد بأيديهم الى المأزق الحالي نتيجة امتناعهم عن الدخول في العملية الاصلاحية».
ويلفت الى انه «لو تكلّمت جدران مجلس النواب ومحاضر الجلسات وفذلكات الموازنة، لأظهرت كم من مرة نَبّهنا الى خطورة المسار الذي كان معتمداً لناحية إرهاق الخزينة العامة بالانفاق العشوائي، وحشو الادارات بالمحاسيب والازلام، والهروب من تنفيذ الاصلاحات الحقيقية، والامعان في الهدر والفساد حتى أصبحت حال دولتنا كحال سيارة فولسفاكن تجرّ شاحنة».
ويضيف: للأسف، بات يصح فينا المثل القائل: «الللي من إيدو الله يزيدو».
ويتطرّق السنيورة الى استحقاق سندات اليوروبوند في آذار المقبل وهل ندفع أو لا ندفع، قائلاً: «من الضروري مقاربة هذا الملف بكل دقة ووفق رؤية صحيحة، حتى نتخذ القرار المناسب، وهذه مسؤولية الحكومة بالتعاون مع مصرف لبنان والخبراء الماليين والقانونيين وكذلك صندوق النقد الدولي الذي لديه مخزون من التجارب الدولية والتطبيقات العملية في مواجهة أزمات تعرّضت لها دول أخرى»، مستغرباً الميل نحو «شَيطنة الصندوق الذي تكمن أهميته الاساسية في انه قادر على منح ختم الصدقية، خصوصاً في بلد انحسرت فيه الصدقية مثل لبنان حيث يكاد كل شخص يكون خبيراً اقتصادياً ومالياً وحيث لا رقم متّفقاً عليه، بل انّ الارقام تنهمر من كل حدب وصوب، علماً انّ صندوق النقد الدولي يقدّم اقتراحات والدولة هي التي تقرّر في نهاية المطاف ماذا تفعل وما اذا كانت ستأخذ بها ام لا».
وقيل له: لو انك وزير المال في هذه المرحلة، هل كنت لتؤيد تسديد دفعة المليار و200 مليون دولار المستحقة على لبنان في آذار المقبل ام لا؟
فأجاب: أنا شخصياً ضد الدفع، واعتبر انّ أضرار الامتناع عن التسديد هي اقل من تلك المترتبة على التسديد، شرط ان يأتي القرار ضمن خطة متكاملة لإعادة جدولة الدين بالتفاهم مع الدائنين الذين يجب ان نعرف كيف نفاوضهم ونقنعهم بأننا جادّون في استثمار فترة السماح او التأجيل التي نطلبها لاتخاذ إجراءات جذرية تُفضي الى تصحيح وضعنا ثم معاودة الايفاء بمتوجباتنا المالية.
ويشدّد السنيورة على انه لم يعد بالامكان معالجة الأزمة الراهنة بالمراهم، «وإنما هناك حاجة الى إجراء جراحة عاجلة لاستئصال المرض بالترافق مع استخدام مجموعة من الادوية المالية والنقدية والادارية والسياسية».
ويعتبر السنيورة انّ الأهم في الوصفة العلاجية المطلوبة هو إعادة الاعتبار الى الدستور، «بعدما أصبح مجرد «خرقة» يمسح بها البعض أقدامهم، مُفترضين انّ في مقدورهم تعديل الدستور بالممارسة، ما أدّى الى تَسلّط الدويلات على الدولة التي أصبح الكل أقوى منها».
ويتابع: لقد أصبحت الدولة أقرب الى جثة، تتوزّع حولها مجموعة من الجهات الشَرهة التي يمسك كل منها بسكين وشوكة ويمعن في تقطيع الجثة لأخذ حصته منها.
ويشير الى انّ بداية العلاج تتمثّل في الاعتراف أولاً بالمرض والكف عن إنكاره، ثم الذهاب الى الطبيب المختص والقبول بالأدوية التي يحدّدها حتى لو ترتّبت عليها عوارض جانبية قد تكون مؤلمة أحياناً.
ويؤكد انّ «لحظة مواجهة الحقيقة المجردة حانت، ولم يعد الهروب الى الامام ينفع»، مستشهداً بما ورد في سورة يوسف في القرآن الكريم «الآن حصحص الحق»، ومشدداً على انّ الحق استحق ولا يجوز الاستمرار في تجاهله وإنكاره.
ويلفت الى أهمية وقف نزيف الكهرباء فوراً، بالنظر الى الخسائر الفادحة التي يتسبّب بها، داعياً رئيس الحكومة حسان دياب الى ان يتصل برئيس الصندوق الكويتي عبد اللطيف حمد ويطلب منه المساهمة في إيجاد حل نهائي لأزمة الكهرباء، متهماً رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل بأنه «أضاع علينا فرصة ثمينة عندما رفض التعاون مع الصناديق العربية في هذا الملف».
ولدى سؤاله: هل من نصيحة أخرى تُسديها لدياب؟
أجاب السنيورة: أنصحه بأن يحوّل الحكومة الى فريق عمل يواظب على «الشغل» ليلاً ونهاراً، وأن يبادر الى إعطاء الاولوية القصوى لقضية الكهرباء، وان يمتلك شجاعة اتخاذ القرارات المناسبة ومنها زيادة التعرفة على كل من يتجاوز استهلاكه سقف الـ500 كيلووات وإبقاء السعر المدعوم محصوراً في الفئة التي تستهلك ما دون هذا السقف حتى لا يجري تحميل الفقراء وذوي الدخل المحدود أعباء إضافية.
ويرفض السنيورة الاقرار بأنّ السياسات الاقتصادية والمالية المتّبعة منذ عام 1992 هي المسؤولة عن وضع لبنان على حافة الانهيار الشامل، معتبراً انّ المشكلة ليست في أصل النموذج وإنما في سوء التطبيق من قبل البعض.
ويضيف: الكل يعرف كيف كان وضع البلد عام 1992 بعد حرب مدمّرة، وكنت أشاهد من نوافذ مكتبي في وزارة المال الجرادين في الشارع، فما الذي كان مطلوباً منّا آنذاك؟ وهل كان هناك خيار غير الانخراط في ورشة إعادة إعمار ما تهدّم؟ وبالتالي لو عاد التاريخ الى الوراء لكنتُ اعتمدت السياسات نفسها. وللعلم، فإنّ الدين عام 1993 كان يقارب الـ 3 مليارات دولار بينما الفوائد المتراكمة على هذا المبلغ منذ ذلك الحين تعادل تقريباً نصف الدين العام.
أمّا في الشأن السياسي، فيشير السنيورة الى انّ انهيار التسوية التي نَعاها الرئيس سعد الحريري يعود الى انّ هناك من استخدمها لاستخراج التنازلات من الحريري، «ولو انه جرى تجيير هذه التنازلات لحساب إعادة بناء دولة المؤسسات والقانون لكان ذلك جيداً، لكنهم للأسف وظّفوها في اتجاه تحقيق مكاسب ضيّقة وزرع المحاسيب والازلام في الادارة».
ويوضح السنيورة انه سعيد بالحكومة الحالية «لأنّ حكومات الوحدة الوطنية أثبتت فشلها، وحان الوقت لإعادة الاعتبار والانتظام الى اللعبة الديموقراطية على قاعدة موالاة ومعارضة، فعندها فقط تستقيم العملية السياسية والآلية الدستورية، بعدما زال الحد الفاصل بين مجلس النواب والحكومة طيلة الحقبة السابقة، فاختلط الحابل بالنابل وتعذّرت الرقابة والمحاسبة».
ويضيف انه «عندما تصيب حكومة دياب سنؤيّدها، وعندما تخطئ سنعارضها»، مشدداً على أهمية المعارضة البنّاءة.
ولدى سؤاله: هل تتوقع أن يبقى الرئيس سعد الحريري خارج رئاسة الحكومة حتى نهاية عهد الرئيس ميشال عون؟
يختصر السنيورة في الرّد مكتفياً بالقول: سبحان الحي الباقي…
ويرى انّ إنهاء التسوية يشكّل فرصة للفرز والتمييز بين مَن يتمسّك حقاً بالاصلاح والدستور والطائف والدولة وبين من يذهب في الاتجاه المعاكس، داعياً الى التخلي عن خطاب الشعبوبة في مقاربة التحديات التي تواجهنا، على قاعدة مصارحة الناس بالحقائق وليس السعي الى استرضائهم كيفما كان ولو من خلال الكذب عليهم.
كذلك، يأمل في إجراء مراجعة لتجربة 14 آذار «التي لم تسقط الّا عندما استغرقت في سياسات الأزقّة والزواريب».