IMLebanon

هل أخذت اللقاح الصيني؟

 

هذا السؤال لم يطرحه يورغين هابرماس الذي يعد اليوم أرقى شخصية فلسفية ألمانية وأوروبية على قيد الحياة، ويبلغ من العمر 92 عاماً. لكنه سؤال مطروح في كل الأحاديث حول «كوفيد – 19» والذي ما زال الشغل الشاغل لبني البشر منذ بداية عام 2020.

لا أحد يسأل محدثه إنْ أخذ اللقاح الأميركي أو البريطاني. فلهذه اللقاحات أسماء محددة مثل «فايزر»، و«أسترازينيكا»، و«موديرنا»، و«جونسون آند جونسون»…

وحده لقاح «سينوفارم» يشار إليه ببلد المنشأ. اللقاح الصيني!

الترميز في مفردة «الصيني» بدل «سينوفارم» يحمل الكثير من الاحتقار للمنتج الصيني. أما شيوع استخدام المصطلح (اللقاح الصيني) في العالم فيستدعي التوقف والبحث في أصل هذه النزعة الاحتقارية حتى في الدول التي استخدمت لقاح «سينوفارم».

قبل أيام أجازت منظمة الصحة العالمية استخدام لقاح «سينوفارم» لحالات الطوارئ؛ ما يجعله سادس لقاح يتم التحقق منه من قبل هيئة أممية، وهو ما سيعزز «حرب اللقاحات» بين أميركا والصين، وسيصب الكثير من الزيت على نار الحرب الدبلوماسية والتنافس الاستراتيجي بين البلدين. مما لا شك فيه أن عالم اللقاحات بات الساحة الجديدة للتنافس الدولي على المكانة والكفاءة وإدارة علاقات الجغرافيا السياسية، بعد الروبوتات والدرونز وتكنولوجيا الجيل الخامس للشبكات الخلوية العريضة النطاق، «فايف جي».

مراكز البحوث السياسية الأميركية تنشط في نشر الدراسات عن صراع النفوذ الدولي من بوابة اللقاحات، ويدعو بعضها علناً للرسملة على تفوق التكنولوجيا الأميركية؛ بغية اكتساب اختراقات في الحزام الاستراتيجي الصيني، لا سيما في دول جنوب شرقي آسيا، كإندونيسيا وفيتنام والفلبين.

ولا يبدو في المقابل أن الصين تعزل اللقاح عن مصالحها الاستراتيجية. تايوان تتهم الصين بأنها طالبت بتغيير موقف الباراغواي في تايوان، ونجحت في الضغط على البرازيل لفتح سوق الـ«فايف جي» أمام «هواوي» كشرط مسبق لتلقي شحنات اللقاح. وتتهم بعض التقارير الأميركية بكين بأنها تعمل بشكل ممنهج على تقويض وإحباط الصفقات التي أبرمتها الدول مع شركة «فايزر» من خلال الشحنات السابقة، عبر تقديم لقاحاتها مجاناً.

بيد أن المشكلة لا تقف فقط عند حدود التنافس الاستراتيجي. فلم تشعل اللقاحات المنتجة في الغرب نفس مستويات القلق والاستنفار تجاه اللقاح الذي أنتجته الصين. ثمة أسباب مشروعة للقلق والاستنفار، وعلى رأسها أن شركتي إنتاج اللقاحات في الصين لم تنشرا بيانات كاملة عن المرحلة الأخيرة من التجارب السريرية الخاصة باللقاحين كما تفترض البروتوكولات الدولية لصناعة الدواء. كما أن الصين متهمة حتى إشعار آخر بأنها مصدر الوباء الذي ضرب العالم؛ ما يساهم في التشويش على صورة منتجها ومشروعية مساهمتها في معالجة المشكلة. وجاء ضياع الصاروخ الصيني في الفضاء واستئنافه رحلة عودة مخيفة إلى الأرض، من تنامي المشاعر السلبية تجاه المنتج الصيني عامة، ما بات يلزم الصين بحملة علاقات عامة جذرية لمعالجة هذا الخلل في الصورة وفي المضمون.

مع ذلك، ما أظنه أن في الكثير من مقدمات الاستنفار الغربي ضد لقاح «سينوفارم» وغيره من المنتجات الصينية المعقدة، هو ما أشرت إليه في مقال سابق، أن الغرب عاجز عن ابتلاع فكرة أن منافسة رفيعة المستوى تأتيه من خارج المنظومة الليبرالية، ومن دولة لا تتبنى منظومة القيم التي تعتقد الانتلجنسيا الغربية أنها وضعت منذ عام 1989 حداً لـ«نهاية التاريخ» بحسب عبارة المفكر السياسي فرانسيس فوكوياما.

لقد كان الرئيس الأميركي واضحاً في التعبير عن هذا الهاجس في خطابه في مجلس النواب الأميركي حين قال إن الرئيس الصيني «مستميت لجعل الصين الدولة الأهم في العالم. يعتقد هو وغيره من المستبدين أنه ليس بوسع الديمقراطية أن تنافس الأنظمة الاستبدادية في القرن الحادي والعشرين».

ما علاقة فيلسوفنا الألماني يورغين هابرماس بما تقدم؟

قبل أيام رفض هابرماس تلقي «جائزة الشيخ زايد للكتاب» بعد أن كان أعلن عن قبوله بها. وفي تصريح للموقع الإخباري الإلكتروني «شبيغل»، قال هابرماس بأن قبوله الأول لجائزة الشيخ زايد للكتاب «كان قراراً خاطئاً»، مضيفاً «لم أوضح لنفسي بشكل كافٍ الصلة الوثيقة جداً بين المؤسسة التي تمنح هذه الجوائز في أبوظبي بالنظام السياسي القائم هناك»!

هل يعقل أن فيلسوفاً بحجم هابرماس لم يلحظ أن الجائزة تحمل اسم مؤسس الدولة ونظامها السياسي؟!

مشكلة هابرماس مع «النظام السياسي» في الإمارات تشبه مشكلة النخب الليبرالية في فهم وقبول المنافسة الآتية من الصين. في العمق لا يقبل العقل السياسي لهابرماس أن الإمارات حققت معجزة تنمية ورفاه اجتماعي واقتصادي، وأنها تضع نصب أعينها خطة تطوير اجتماعي وقيمي وأخلاقي، وتعمل وعملت على تطوير قوانين العائلة والهجرة بشكل أقل ما يقال فيه إنه ثوري، وإن كان من خارج المنظومة القيمية للديمقراطية الليبرالية. المفارقة، أن المسار الإصلاحي الإماراتي هو بالتمام عملية «تحول بنيوي في الفضاء العام»، وهو اسم أطروحة هابرماس لعام 1961. لقد وقع هابرماس في تنميط آيديولوجي أعماه عن أن الإمارات واحدة من أهم الدول الجاذبة اجتماعياً واقتصادياً على مستوى العالم، ومركز استقطاب للخبرات والاستثمارات والبحث العلمي والتقني واتفاقات الشراكة والتوأمة، لا بسبب الوفرة المالية وحسب وحسن إدارة الثروات الوطنية، بل بسبب الرسوخ الأكيد لمبادئ التسامح وثقافة التعدد التي تشهد لها حال وئام يعيش في كنفها ملايين الوافدين من كل أصقاع الأرض.

يحصل هذا في حين النظام الليبرالي يعاني من حلقات متصلة من الفشل، بدءاً من تفشي القومية والشعوبية في أوروبا وأميركا إلى تعثر وعود النظام المالي والاقتصادي الليبرالي عن الوفاء بوعوده الوردية لعشرات الملايين في القارتين القديمة والجديدة، وهو ما فضحته الأزمة المالية عام 2008، التي أصابت العمق الأخلاقي للنظام الليبرالي، لناحية كشفها عن مستويات تفشي الفساد وغياب المحاسبة وحماية كبار المسؤولين عن الانهيار وإلقاء تبعاته على صغار المودعين والمستثمرين والملّاك.

في كتاب «الضوء الذي فشل» لكل من إيفان كراستيف وستيفن هولمز، خلاصة، تفسر موقف هابرماس من جائزة الشيخ زايد والاستنفار الغربي ضد المنجز العلمي الصيني، مفادها أن «الليبرالية الغربية أصبحت غارقة في الرضا الذاتي والغطرسة بعد عام 1989؛ مما أدى إلى رد فعل عنيف في الديمقراطيات الجديدة في الشرق كما في الغرب نفسه. انتهى الأمر بالليبرالية ضحية نجاحها في الحرب الباردة… لقد وقعت الليبرالية في حب نفسها وضاعت طريقها».

المشكلة في الغطرسة أولاً.