ألزم الرئيس ميشال عون نفسه بالوصول الى قانون انتخابي جديد قبل نهاية ولاية المجلس النيابي، وإجراء الانتخابات النيابية على أساسه. والمنتظر بعد تشكيل الحكومة أن يدفع رئيس الجمهورية في هذا الاتجاه.
إتّفق كلّ أهل السياسة على اعتبار حكومة العهد الأولى حكومة انتقالية، قصيرة العمر، لها وظيفة محدّدة، هي إنتاج القانون الانتخابي الجديد، وإجراء العملية الانتخابية.
فقدّموا عبر هذه الوظيفة فرصة لهذه الحكومة، لكي تكون حكومة التأسيس التي يمكن أن تدخل التاريخ بقانون انتخابي يشفي البلد من مرض الستين، ويُرسّخ التوازن والعدالة الحقيقية في التمثيل، ويُتيحه لكل شرائح المجتمع اللبناني كلّ بحسب حجمه وقَدره، بلا أورام او انتفاخات وهميّة أو مقاسات اصطناعية.
الأيام الأخيرة حمَلت ما يُشبه التوافق بين اهل السياسة على الفصل بين الشأنين الحكومي والانتخابي، وإطلاق عملية البحث عن الصيغة الانتخابية التي تدفن السنين، وتنقل البلد من موقع إلى آخر.
وبالفعل، بدأت الاتصالات في هذا الشأن، تأخذ صفة الاستعجال. هي مدفوعة أصلاً بقوة دفع جدية من قبل رئيس الجمهورية، ورئيس مجلس النواب نبيه برّي ومعه «حزب الله» والحلفاء، وكذلك من البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي. إلّا أنها تلقّت في الساعات الأخيرة، جرعة دفع إضافية من الرئيس سعد الحريري.
في اللقاء بين برّي والحريري ليل الجمعة الماضي، وإلى جانب الملف الحكومي، حضر الملف الانتخابي بينهما لأكثر من ثلاثة ارباع الساعة. خلاصته أنّ الستين مرض لا بد من الشفاء منه، وانه لا بد من قانون جديد يواكِب العصر.
لقد سبق لبرّي أن سمع من رئيس الجمهورية بأنه راغب في الوصول الى قانون انتخابي جديد… وليل الجمعة لمَس برّي هذه الرغبة أيضاً لدى الحريري، الذي أبدى أمام رئيس المجلس النيابي استعداداً جدياً للوصول إلى قانون انتخابي، وهو أمر بعث الارتياح لدى رئيس المجلس.
أجواء اللقاء عكست أنّ التوافق قد تمّ على مبدأ دفن الستين. وأمّا الصيغة التي سيَرسو عليها القانون العتيد، فستحدّدها ورشة العمل الانتخابية التي يجري تزييت محركاتها منذ الآن.
قد تبدأ الورشة الآن أو غداً او بعده، أو بعد اسبوع او شهر، وهذه علامة جيّدة. لكن هذا لا يعني انّ هذه الورشة ستكون أمام مهمة سهلة، لا بل انّ من البديهي افتراض أنها ستكون أمام مهمة شاقة.
ليس سراً انّ الستين يشكل شريان الحياة بالنسبة الى بعض القوى السياسية، وليس سراً انه أتاح لها حضوراً مميزاً في مجلس النواب، وفصّل لها كتلاً نيابية أكبر من حجمها الطبيعي، جعلتها شريكاً فاعلاً في الجنّتين الحكوميّة والمجلسية.
ولذلك، لن يكون مفاجئاً إن بكى هذا البعض على الستين، وفتح حنفيات دموعه السياسية وسَكبها على ورشة العمل النيابية لتغرقها بصَيغ، وأفكار، وطروحات، وتقسيمات، وتعقيدات، بهدف الإبقاء على شريان الحياة.
قد يشكّل عامل الوقت واستنزافه الى أبعد الحدود، الملاذ الأخير لأصحاب الدموع، لتحصين الستين ومحاولة فَرضه أمراً واقعاً وشرّاً لا بدّ منه. ولكن حتى ولوَ كان الوقت يضغط، فإنّ نقطة ضعف هؤلاء تتبدّى:
1 – أمام حقيقة أنّ «الستين» صار كالوباء الكلّ يتجنّبه علناً، صار التمسّك به علناً مُحرجاً، فلم يعد في استطاعة أحد أن يذهب اليه او يتبنّاه علناً، أو أن يَظهر في موقع المؤيّد لبقاء الستين.
وهذه علامة جيدة، ومن هنا تتعزّز الفرصة لإنجاز قانون جديد. على انّ هذه الفرصة يجب أن تتمتّع بقوة كبيرة تمكّنها من اختراق او تعديل المقولة التي لطالما كرّرها بري في معرض توصيفه لموقف البعض من قانون الستين، بقوله: «في العلن سيوفهم عليه… وأمّا في السرّ فقلوبهم معه».
2 – أمام إصرار رئيس الجمهورية على ألاّ يُهزم عهده امام الستين، هو قال إنّ الستين مات وانتهى. وهو يدرك انّ بقاء هذا القانون المتخلّف معناه انّ العهد يُسدّد لنفسه «ضربة» فيها الكثير من الوجع: وجع معنوي، وجع في إظهار الضعف والعجز، وجع في المصداقية، وجع في الوعود التي يُطلقها لبناء الدولة ومكافحة الفساد وكل الموبقات. وفي تفريغها من جديتها ومضمونها.
هنا من الطبيعي والبديهي افتراض انّ عون لن يسقط «الوعد الرئاسي» الذي قطعه في خطاب القسم، بإعداد قانون انتخابي جديد. يسجّل له كإنجاز تاريخي، يشكّل انطلاقة جديدة للبلد، وكذلك لانطلاق عهده الطموح الى الكثير الكثير.
3 – أمام الرفض القاطع من رئيس المجلس النيابي للذهاب الى الانتخابات النيابية على أساس الستين، او الذهاب الى خيار التمديد للمجلس.
يقول برّي: قانون الستين في نظري مات وشبع موتاً. ولا يمكن أن نحيي الاموات وننتشلهم من تحت التراب.
ويؤكد: «أنا مع الفصل ما بين الأمرين الحكومي والانتخابي، والشروع فوراً في البحث عن الصيغة الانتخابية الملائمة، طالما أنّ الكل ضد الستين، ولكن أخشى أن تبقى قلوب بعض القوى السياسية معه».
وعلى الرغم من الكلام عن ضيق الوقت وضغط المهل، يوضح بري: «صحيح أنّ الوقت يضغط، ولكنه ما يزال مُتاحاً، المهم أن تتوافر الارادة الصادقة للوصول الى قانون جديد. ما يزال معنا وقت، ولا يجب ان نيأس ونُسلّم مُسبقاً باستحالة إعداد قانون. لذلك الوقت لم ينفذ بعد، المهم ان تتشَكّل الحكومة لتكون الشريك في إعداد القانون الانتخابي».
في رأي بري «أنّ أسباباً كثيرة تدفع الى رفض العودة الى قانون الستين، أوّلها أنه قانون متخلّف يُفرّق ولا يجمع، ويزيد من تشوّه الحياة السياسية، وليس سراً انّ الاحصاءات التي أجريت في الآونة الاخيرة دَلّت الى انّ ما يزيد عن 74 في المئة من اللبنانيين هم ضد العودة الى قانون الستين، و100 في المئة من اللبنانيين ضد التمديد للمجلس النيابي».
هنا يؤكد بري: «ببساطة كُليّة، لا للستين ولا للتمديد، لقد قلت للجميع انه إذا كان الستين هو الكحل… فالتمديد هو العمى. هَذان الخياران لا يصحّ مقاربة أيّ منهما بأنه «أهوَن الشَرّين»، بل بالعكس، كلاهما شَرّ مُطلق لا بدّ من تجنبه: الستين مرفوض ولن نقبل ببقائه او إجراء الانتخابات على أساسه، أمّا التمديد فلا يمكن ان نقبل حتى ان يكون مطروحاً على بساط البحث.
وأعود وأؤكد الآن أنني لن أمشي بالتمديد ابداً، إلّا إذا أرادوا أن يحاولوا السير به غَصباً عني، أقول من الآن: هذا يعطيني حق المواجهة القاسية له، حتى ولَو كنت وحيداً».
ويؤكد بري انّ في «الذهاب الى الستين او الى التمديد مجازفة خطيرة. وها أنا أدقّ ناقوس الخطر من جديد. لا يظنّن احد بأنه سيقودنا الى الستين او الى التمديد، لقد قلت حيث يجب أن يقال إنّ بقاء الستين يشكّل ضربة كبرى للعهد. وامّا التمديد، فيذهب بالعهد كله. وكلاهما يذهبان بالبلد الى المشكلة الكبرى».
عَلام ستَرسو الصيغة الانتخابية البديلة عن الستين؟
«هذا رهن بما يمكن ان تتوصّل اليه ورشة العمل الانتخابية». يقول بري، والأجواء توحي بتوجّه جدي نحو النسبية. لكنّ اللافت للانتباه هنا انّ برّي حَذِر الى حدّ جعله يسقط مقولة السيوف والقلوب على النسبية، كما سبق له أن أسقطها على الستين، ويخشى من أن تكون قلوب بعض القوى السياسية مع النسبية وسيوفهم عليها.
أمّا عن شكل الدوائر، فلرئيس المجلس النيابي مقولة دائمة «كلّما صغرت الدوائر، تعمّقت الطائفية والمذهبية وانكفأ اللبنانيون الى داخلها. وكلما كانت الدائرة الانتخابية واسعة، صار الكلّ بحاجة الى الكلّ وتغلّبت اللغة الوطنية على اللغة الطائفية».
وفي زمن ورشة العمل الانتخابي الجديد، فإنّ الأرجح هو الذهاب الى الدوائر الموسّعة (المحافظات) وبالتأكيد على أساس النسبية. ولا يجب ان ننسى أنّ للقانون التأهيلي حظوظاً مهمة في هذه الفترة.
قيل لرئيس المجلس إنّ هناك من يفكر بتحالفات انتخابية لتغيير المعادلة الداخلية… فقال: «إن كان أحد ما يزال يفكر في هذا الأمر فتلك مصيبة، لأنّ ذلك دليل على أنّ هناك من لم يتعلّم من التجارب.
وامّا المصيبة الأكبر فإن كان هذا البعض يصدّق نفسه ويظنّ أنّ في مقدوره أن يخلّ بالتوازنات الداخلية وان يعدّل في الخريطة السياسية لمصلحة فريق من دون فريق آخر. هنا الجواب بسيط لا أحد يستطيع ان يخلّ بالتوازنات والتركيبة. إسألوا التاريخ».
يبقى انّ السلة التي سبق لبرّي أن طرح الاتفاق عليها قبل الانتخابات الرئاسية، ما زالت حاضرة في سؤال دائم: «لم تكن السلة يوماً مادة تعطيلية، بل كانت تسهيلية الى أبعد الحدود، فلو تمّ الاتفاق عليها مُسبقاً، أما كنّا وَفّرنا علينا الكثير من الشدّ والرّخي، والكثير من الارتباك ومن الجدل الذي لا طائل منه؟