كيف يمكن لمكونات طائفية ومذهبية، تعيش في لبنان تحت سماء واحدة، يحكمها دستور طائفي وقوانين طائفية، ويتدخل في كل شاردة وواردة رجال الدين، وبعضهم ينغمس في السياسة حتى الاذنين وغالباً ما يفرض رأيه على الدولة والناس، لان النظام الطائفي والديموقراطية التوافقية الطائفية، يسمحان له بذلك، كيف يمكن لهذه المكونات، ان تعيش صيغة العيش الواحد، طالما ان مكونات من طائفة واحدة، مصرة على المبدأ الذي يقول «ما لي، لي لوحدي، وما لك، لي ولك»، وتبعاً لهذه المعادلة، اصبح واضحاً بعد تجارب ومعاناة طويلة، ان التوصل الى قانون نيابي جديد، يعطي كل صاحب حق حقه، من المكونات الموجودة، وفي شكل خاص المكون المسيحي، هو من رابع المستحيلات، في ظل هذا النظام الطائفي المتخلف، وفي ظل الاستثناء الذي اصبح قاعدة، وحقاً مكتسباً للبعض، ورثه عن الاحتلال السوري، الذي اهدى المكونات الاسلامية المتعاونة معه، الحقوق التي انتزعها من المسيحيين الرافضين لوجوده، وكانوا اكثرية ساحقة، تشهد عليها مقاطعة الانتخابات النيابية في العام 1992.
منذ ايام لجنة ما يسمى بلجنة فؤاد بطرس، التي كلفت منذ حوالى عشر سنوات بوضع قانون جديد للانتخابات، وحتى امس تم التداول باكثر من ثلاثين صيغة لقوانين انتخابية، بعضها وفق النظام الاكثري، وبعضها وفق النظام النسبي، والبعض الاخر وفق النظام المختلط بين الاكثري والنسبي، وبعضها نابع من الحالة الطائفية القائمة والمتجذرة، مثل القانون الارثوذكسي، وفي الدستور نظام خارج القيد الطائفي، بالتزامن مع مجلس للشيوخ قائم على الطائفية للتوازن، ولكن اياً منها لم يحظ بشرف القبول من المكوّنات ذات الشهيّة الطيّبة المنفتحة على البلع والزلع، فبعضها ينادي بنسبية كاملة لانها تناسبه أكثر من غيرها، والبعض يرتاح الى قانون الستين، ويعرف ضمناً أن الشركاء الآخرين، باستثناء المسيحيين، غير منزعجين من اعتماد هذا القانون، الذي يؤمّن لهم حصّة نيابية وازنة يستطيعون التمترس وراءها في الحكومات وفي مجلس النواب.
هذا الوضع التعجيزي ادخل لبنان في مأزق كبير، اين منه مأزق التعطيل والفراغ في رئاسة الجمهورية وفي مجلسي النواب والوزراء، لأن في رئاسة الجمهورية اليوم، رئىساً غير راغب لا بتدوير الزوايا ولا بالدخول في مساومات او التنازل للأمر الواقع، ويفضّل الفراغ على وجود مجلس نيابي لا طعم له ولا رائحة، سوى طعم الفساد ورائحة النفايات والصفقات، فماذا يفعل اللبنانيون، والى أين يفرّون، اذا كان قانون الستّين امامهم، والفراغ وراءهم، خصوصاً ان ما يشكو منه اللبنانيون، من نقص كبير في الخدمات، ومن خطر حقيقي يهدد وجود لبنان ووجود شعبه، هو انتشار أكثر من مليوني غريب في كل مدينة وبلدة وقرية وشارع وزاروب، ما زالت قائمة وتداعياتها تزداد حدّة وخطورة واتساعاً.
****
اصبح واضحاً ان امراض لبنان المزمنة، وخصوصاً ما يتعلق منه بالوسائل الكفيلة بحماية صيغة العيش المشترك، تحوّلت الى امراض غير قابلة للشفاء بالمعالجة الموضعية الروتينية، بل هي بحاجة الى معالجة جذرية لا تخلو من آلام واوجاع وتضحيات، قد تكون اللامركزية الكاملة جزءاً منها، او فرض الدولة المدنية القريبة من العلمنة المؤمنة، او التفكير بفدرالية عاقلة ومتفق عليها لحفظ حقوق الجميع وكرامتهم، لأن ما يتفق عليه جميع اللبنانيين اليوم، باستثناء من يرفض ان يرى الواقع المأزوم، هو ان الاوضاع على ما هي عليه، اصبحت ورماً خبيثاً يكبر يوماً بعد يوم، ونهاية هذا الورم لن تكون بطبيعة الحال… سعيدة.