سعى رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري للضغط على مختلف الأطراف من أجل تأمين ولادة الحكومة، من خلال التلويح بأنّه سيسافر مساء اليوم إلى الخارج بحجّة ارتباطه ببعض المواعيد، ولكن في الحقيقة، لاعتراضه على اعتلاء منصّة الاستقلال إلى جانب رئيس الحكومة المستقيلة، كون هذا المشهد مسيئاً لصورة لبنان والدولة.
بعيداً عن لعبة الحقائب والأسماء، بدا أنّ الخلفية الحقيقية للصراع الدائر حول تشكيل الحكومة يَكمن في الأحجام والتوازنات، التي جرى التفاهم حولها في المرحلة التي واكبَت ولادة التسوية الرئاسية.
في نهاية الأمر ستولد الحكومة وسيتدبّر المسؤولون المخارجَ والتفاهمات اللازمة لإقناع الجميع بالحلول المعقولة، كما درَجت العادة، أو كما يَصفها الديبلوماسيون بالتسويات على «الطريقة اللبنانية»، لكنّ صراعاً آخر سيكون أشدّ ضراوةً سيبدأ، لا بل إنّه بدأ فعلياً في الكواليس والغرَف المغلقة: «الانتخابات النيابية».
خلال الأيام الماضية ساد كلام «تحليلي» لدى القوى السياسية التي لديها خصومة مع تيار «المستقبل» ومفادُه بأنّ الحريري يُسهم في الإبقاء على العقبات التي تعترض ولادةَ الحكومة بهدف تأخير ولادتها وصولاً إلى الدفع في اتّجاه تأجيل مواعيد الانتخابات النيابية لاعتقاد هذه القوى بأنّ هذا الأمر يبقى هدفاً مركزياً للحريري الذي يريد مساحةً زمنية أكبر له وهو في السلطة لكي يستطيع الاستفادةَ منها بهدف تحسين مواقعه الشعبية.
ويستند هؤلاء إلى الكلام الذي تَردّد مع انفتاح الحريري على الرئيس ميشال عون خلال مرحلة الإعداد للتسوية الرئاسية، والداعي لتأجيل الانتخابات سنةً واحدة. يومها نفَت الأوساط المحيطة بعون والحريري على السواء هذا الكلام، رغم ذلك فإنّ «هاجس» التأجيل بقيَ موجوداً.
صحيح أنّ هذه «الاتّهامات» تبقى في إطار التحليل من دون الاستناد إلى وقائع، إلّا أنّ الرئيس نبيه بري أعلنَ أنّه لن يقبل بأيّ تمديد إلّا في حالة واحدة وهي إقرار قانون جديد للانتخابات وعلى أساس تمديد تقني لأشهر معدودة يَجري لحظُها من خلال بندٍ واضح ومستقلّ مع القانون الانتخابي الجديد.
ورغم مناداة الجميع برفض القانون الحالي وضرورة الاتفاق على قانون جديد، لا يبدو أنّه مع طرح كلّ هذه القوانين المبعثرة أنّ هناك أملاً جدّياً بالاتفاق على قانون جديد. فالقانون النسبي الذي ينادي به الفريق الشيعي مرفوض من تيار «المستقبل» الذي يَقبل بالمختلط بالتوافق مع «القوات اللبنانية»، لكنّ تقسيمات هذا المختلط وشروطه تختلف لا بل تتناقض في بعض بنوده مع «المختلط» الذي يوافق عليه «التيار الوطني الحر» وبرّي.
أخيراً، ظهرَ اقتراح جديد يتحدّث عن دورتَين انتخابيتين؛ الأولى تأهيلية على أساس النظام الأكثري في الأقضية الحالية ووفق مشروع «اللقاء الأرثوذكسي» أي أن تَنتخب كلّ طائفة نوّابَها، والثانية وهي للانتخاب على أساس النسبي ووفق المحافظة، بعد أن يكون قد تأهّلَ فائزان أو ثلاثة عن كلّ مقعد. لكنّ هذا الاقتراح رفضَه تيار «المستقبل»، ما يَجعله يَلقى مصير الاقتراحات السابقة.
ولكي لا يتوهّم البعض، فإنّ القوى السياسية المختلفة، ولا سيّما المسيحية منها، بدأت بإعداد ماكيناتها الانتخابية وتنظيم استطلاعات الرأي وفقَ القانون المعمول به حالياً. ما يعني أرجحية حصول الانتخابات في مواعيدها مع إدخال مادة جديدة إلى السجال الانتخابي لتعبئة القواعد الشعبية عبر التراشق في تحميل المسؤولية لبقاء القانون المعمول به حالياً.
وتأكيداً على بقاء القديم على قدمِه، طالبَت بعض القوى المسيحية بجائزة ترضية أو عملية تجميلية تقضي بنقلِ المقعد الماروني في طرابلس إلى البترون، والمقعد الماروني في بعلبك الهرمل إلى بشرّي.
«عملية تجميلية» لا تبدو متيسّرة، خصوصاً في ظلّ وجود شعور بأنّ ثنائي «التيار الوطني الحر» و»القوات اللبنانية» الذي باشَر ترجمة تعاونِه الوثيق من خلال التشكيلة الحكومية، إنّما يسعى إلى أنّ تشكّل الانتخابات النيابية المقبلة مناسبةً ذهبية لإقصاء، وبالتالي القضاء على القوى السياسية الأخرى – الحزبية والمحلّية، تمهيداً للإمساك بكامل التمثيل السياسي.
وبَعدها تعتقد قيادة «القوات اللبنانية» أنّها قادرة على إذابة واستيعاب الشارع العوني في مرحلة ما بعد عون، فيما تعتقد قيادة «التيار الوطني الحر» أنّ المرحلة التالية ستشكّل الفرصة المناسبة لتثبيتِ القيادة الجديدة ولتكونَ الانتخابات النيابية بمثابة المعمودية.
هذا المشروع كان قد بوشرَ به مع الانتخابات البلدية الأخيرة، ولكنّه شهد نتائجَ عكسية في مناطق عدة، وسيَستفيد ثنائي «القوات» و»التيار» من الأخطاء «البلدية» لإنجاز انتخابات نيابية تحقّق الأهداف بطريقة أفضل.
في الجهة الأخرى، باشَر الثنائي الشيعي وتيار «المستقبل»، وخلفَهما النائب وليد جنبلاط، بدرسِ كيفية التعاطي مع الاستحقاق النيابي كلٌّ بمفرده.
«حزب الله» الذي استفاد من التجربة البلدية يدرس خيار استعادة سلوكه، أي أن يقترع لحلفائه أينما كانوا، وبالتالي عدم التزام لوائح الآخرين، بل ربّما بتشكيل لائحته عبر جمعِ مرشّحين موجودين على مختلف اللوائح، وتجربة زحلة واضحة في هذا الإطار.
برّي يدرس بتأنٍّ الخيارات المتاحة، وهو الذي «تَميّز» عن «حزب الله» في التصويت لبعض اللوائح البلدية، ويدرس بري خطواته بحذر، وهو الذي خاضَ ولا يزال معاركَ سياسية مختلفة، أبرزُها مع عون، فيما يبقى هو المرشّح الدائم لرئاسة مجلس النواب.
أمّا تيار «المستقبل»، فيبدو أمام مشهد جديد. هو بات صديقاً وربّما أكثر للنائب سليمان فرنجية، ويحرص على حمايته مع شعور بشيء من الذنب بسبب رئاسة الجمهورية.
كما تَجمعه صداقات مع قوى مسيحية مناطقية أخرى، أبرزُها الوزير بطرس حرب والنائب نديم الجميّل، إضافةً إلى رئيسة «الكتلة الشعبية» ميريام سكاف التي تلقّت هجوماً عنيفاً إثر استقبالها الحريري في زحلة قبَيل الانتخابات البلدية.
ويروي أحد العارفين أنّ الحريري يرفض اختصار الساحة المسيحية بثنائية على غرار الثنائية الشيعية، لأنّ الذهاب في هذا الاتجاه سيَعني دفعَ البلد إلى التقسيم والاقتتال، وربّما الحرب الأهلية مجدداً. ولا يَستبعد هؤلاء أن ينضمّ تيار «المستقبل» إلى لوائح انتخابية لا علاقة لها بالثنائي الحزبي المسيحي في بعض الدوائر، وإنّ هذا الاقتراح يُدرَس جدّيا.
وقد تكون هذه الصورة الانتخابية هي التي تقف خلف العقَد التي تعرقل الحكومة، وتَردّد أخيراً أنّ الحريري سجّلَ انزعاجاً من بعض مطالب عون، وأنّ أحد اللقاءات الأخيرة بين الوزير جبران باسيل ونادر الحريري كان سلبياً وبارداً، بعكس ما سبَقه من لقاءات قبل انتخاب عون وبَعده حين شكّل ثنائي باسيل – نادر الحريري تفاهماً وتناغماً كبيرَين.