Site icon IMLebanon

«مسلخ» صيدنايا.. و«مسخ» سوريا  

ترتبط حياة وذكريات كثر من السوريين وحتى اللبنانيين ومن اجيال متعاقبة امتدت على مدى اربعة عقود من الزمن بـ «روايات» و»أساطير» سجن صيدنايا. الحكايات نفسها ينقلها بعض المعتقلين الذين كُتبت لهم حياة جديدة بإطلاق سراحهم وخروجهم منه بعد سنين من الاعتقال التعسفي والتعذيب والتنكيل. سجن صيدنايا رمز سطوة نظام حزب «البعث» السوري، تحوّل مثله مثل العديد من السجون العسكرية في سوريا، ابرزها سجون عدرا ومزة وحلب وتدمر، الى مقارّ لاحتجاز آلاف المدنيين المتهمين بدعمهم للمعارضة. كان صيت جرائمه شائعا طيلة سنوات الاستقرار السياسي والامني الذي سيطر على سوريا على الرغم من حرص النظام الكبير على إخفاء وطمر اي دليل يمكن ان يورّطه ويفضح حقيقته الاجرامية بالدلائل علناً. وعلى عكس زمن السلم السوري غابت تماماً الاخبار والتقارير الميدانية عن السجون السورية في السنوات الخمس الاخيرة ليأخذ مكانها الجحيم الدموي الذي عمّ البلاد منذ اندلاع الثورة.

يُعتبر التقرير الذي أصدرته منظمة العفو الدولية اخيراً، الاول من نوعه من حيث دقته وواقعيته وصراحة وصفه وتوثيقه للانتهاكات المفجعة التي ارتكبت منذ العام 2011، وتحت عنوان «مسلخ بشري: شنق جماعي وابادة في سجن صيدنايا»، اشار التقرير الى قيام السلطات السورية بـ «تنفيذ اعدامات جماعية سرية شنقاً بحق 13000 معتقل غالبيتهم من المعارضين المدنيين»، لافتاً الى ان «عمليات الاعدام غالباً ما كانت تنفّذ مرتين اسبوعياً، بمجموعات تصل احياناً الى خمسين شخصاً يتم شنقهم حتى الموت، وكان يتم اخضاع السجناء لمحاكمات عشوائية وتعذيبهم ثم شنقهم عند منتصف الليل وفي سرية تامة».

ارتكزت المنظمة في تقريرها المعمق على شهادات 84 شاهداً بينهم حراس سابقون في السجن ومسؤولون ومعتقلون وقضاة ومحامون بالاضافة الى خبراء دوليين ومحليين حول مسائل الاعتقال في سوريا. وفي سياق سرد فظاعة الانتهاكات الانسانية التي ارتكبت، روى قاض سابق كيفية اعدام الاطفال فقال ان «صغار السن من بينهم كان وزنهم اخف من ان يقتلهم فكان مساعدو الضباط يشدونهم الى الاسفل ويحطمون اعناقهم»، واصفاً هذه الجرائم بـ «جرائم حرب وجرائم ضد الانسانية ومع ذلك فهي ما زالت مستمرة على الارجح، من خلال انتهاج نظام الاسد سياسة الابادة الجماعية». وكانت منظمة العفو قد قدرت في تقارير سابقة عدد السجناء الذين قضوا في معتقلات النظام منذ بدء النزاع في آذار 2011 بنحو 17 الفاً و700 سجين ما يعني ان مقتل 13000 معتقل في سجن واحد يزيد هذه الارقام بنسبة كبيرة. ولشرح وإظهار فظاعة الواقع اكثر نشرت المنظمة على صفحتها الرسمية على «فايسبوك» شريط فيديو كرتونياً عن شخصية تجسد مواطناً سورياً شارك في احدى المظاهرات السلمية في بدايات الثورة وانتهى به الامر بإعدامه شنقاً في سجن صيدنايا مع سرده لكل المعاناة التي عاشها داخله.

اذاً البقعة الجغرافية الوحيدة التي بقيت تحت سيطرة وحكم النظام السوري مباشرة، بعد ان سلم الاسد «المسخ» كافة مناطق ومدن ومحافظات سوريا للسلطتين الروسية والايرانية لتولي امر افراغها من معارضيه، وذلك لعجزه التام عن كبح ثورة الشعب وفقدانه كافة مقدرات وقوة نظامه الاستخبارية التاريخية المعروفة، بدأ يظهر ما كان يدور فيها الى العلن. فما قامت به الطائرات الروسية والميليشيات الايرانية، «حزب الله خصوصاً، امام اعين العالم طيلة السنوات الخمس من إبادات جماعية، استكمله الاسد بإبادات جماعية اخرى ولكن سرية ومن داخل سجونه. فعلها مجدداً وخيّبت طبيعته البشرية وطبيعة نظامه الاجرامية كل المعايير الانسانية والمنطقية، فحرص على الظهور العلني بصورة القائد المستعد لاستيعاب كل «هفوات» شعبه بحقه، عامداً الى اصدار العديد من احكام العفو العام بحق مساجين الرأي غير المرتبطين بقضايا «ارهابية» كما يصفها، فيما في الواقع واظب على اعدام كافة معارضيه السلميين في السجون، اي الذين لم يعودوا يملكون ولا اي وسيلة لمعارضته، وإطلاق سراح المعتقلين الاصوليين والمتشددين الذين كانوا يهددون النظام، وذلك لتغذية الجماعات المتطرفة في الخارج.

تعتيم لعقود لم ينجح بالتغطية على اجرام النظام الاسدي الى الابد، وما لم يقله التقرير، قالته كافة جثث الضحايا التي استلمها اهلها بعد موتها تحت التعذيب لسنوات وسنوات مضت، وقالته اكثر من ست مئة عائلة لبنانية ما زالت حتى اليوم تنتظر ابناءها المفقودين الذين تشير كل المعلومات الى وجودهم في سجن صيدنايا مؤكدة بقاء عدد كبير منهم على قيد الحياة، وقاله مئات الآلاف من المعتقلين السوريين المعارضين لنظام الاسد الذين خرجوا بإعاقات دائمة وصولا الى الاصابة بأمراض عصبية كبيرة.

عار النظام المستمر الذي لن ينتهي لا مع اتفاقيات وقف اطلاق النار، ولا مع اتفاقيات ثنائية او ثلاثية تبقي الاسد في السلطة، أبى «حزب الله» ان يلصقه بنفسه ايضاً، وهو المشارك الاول في المجازر العلنية قبل السرية بحق الشعب السوري. وبالعودة الى الارقام المرعبة للاعدامات التي ذكرها التقرير والتي ارتكبت طيلة فترة وجود الحزب في سوريا ميدانياً وادارياً بالتنسيق مع اعلى قيادات وضباط الجيش السوري وذلك باعتراف الاسد ونصرالله، فهي تؤكد مشاركة الحزب فيها او في احسن الاحوال بمعرفة ادق تفاصيل هذه الانتهاكات والسكوت عنها.

اجيال سورية ولبنانية بأكملها عرفت معنى العقاب بمجرد الانتفاضة سلمياً على انظمتها، بشار الاسد ومن قبله والده علّماهم جيداً كيف يكون صوت الموت وطعمه. يمكن لـ «حزب الله» وبصراحة تامة وضع مشاركته في الحرب السورية في اطار «رد الجميل» لنظام الاسد على كل ما قدمه له طيلة سنوات احتلاله للبنان، ويمكنه ايضا المجاهرة بدفاعه عن النظام الاسدي لاعتباره جسر عبور استراتيجي ولوجستي اساسي بين لبنان وايران، او الاعتراف بقدرة الاسد على إحراز توازن خبيث مع الدولة الاسرائيلية يستفيد منه الحزب عند الحاجة، او باستحالة شد العصب الهجومي الايراني على المنطقة بغياب نظام الاسد، ولكن ان يمضي الحزب اربع سنوات من القتال الشرس، وكل ما استتبع مشاركته في الحرب السورية من خرق سيادة الدولة وإرسال آلاف الشباب اللبنانيين الى الموت ووضع لبنان في عين العاصفة الاصولية والارهابية وفي مواجهة مباشرة مع المجتمع الدولي والعربي خدمة للاسد الذي فاق باجرامه اكبر الجماعات الاصولية المتشددة، فهنا تحديدا مشكلة اللبنانيين معه، كل ما عدا ذلك مجرد تهريج سياسي وطائفي وسلطوي في سيرك «حزب الله» الذي أقحم البلد فيه عن سابق تصوّر وتصميم، ما سيؤدي الى انهيار صورته كما صورة النظام السوري نحو قاع لا ينتهي.