من جديد ثَبت انّ الأرقام في لبنان لا تشبه غيرها في الدول الأخرى، وانّ مفهوم الأكثرية والأقلية في هذا البلد الاستثنائي، مغاير لما هو سائد في الديموقراطيات الكلاسيكية، كما يمكن الاستنتاج من تجربة تكليف الرئيس نجيب ميقاتي بالأمس وما قبلها.
مرة إضافية، تأكّد أنّ المعارضة التي قدّمت نفسها على أساس انّها رابحة في الانتخابات النيابية، انما هي أغلبية عددية على الورقة والقلم فقط، لكنها في الواقع أقلية سياسية تفتقر إلى الفعالية، وأعجز من ان تتحول أكثرية نيابية مرجِحة، والدليل انّها لم تربح منذ 15 ايار اياً من الاستحقاقات الدستورية.
والمفارقة انّ الطرف الذي يُفترض، وفق خصومه، انّه خاسر للانتخابات، فاز حتى الآن برئاسة المجلس النيابي وموقعي نائب الرئيس وأمين السر وبخيار الرئيس المكلّف و«الخير لقدام».
وبناءً على هذا الخط البياني، هناك من يعتبر انّه بعد انتخاب نبيه بري على رأس السلطة التشريعية والياس بوصعب نائباً له وآلان عون أميناً لسر هيئة المكتب وتكليف نجيب ميقاتي (مرشح «الثنائي») بتشكيل الحكومة، فإنّ التتمة المفترضة لهذا المسار هي انتخاب سليمان فرنجية رئيساً للجمهورية بعد أشهر قليلة.
ولعلّ لسان حال «حزب الله» وحركة «امل» وحلفائهما يقول، إنّ من كانت تواجهه معارضة مشتتة ومنقسمة على نفسها كتلك التي أفرزتها الانتخابات النيابية، لا يحتاج إلى ان يملك اكثرية موصوفة و«مختومة» يتحمّل مسؤوليتها وأعباءها، خصوصاً انّ من هم على الضفة المقابلة يتبرعون من تلقاء أنفسهم بمنح الهدايا السياسية المجانية لمنافسيهم، مع تأمين خدمة «الدليفري» أيضاً!
واحدة من تلك الهدايا هي الطريقة التي تعاملت بها قوى المعارضة مع استحقاق التكليف، حيث ظهرت عاجزة عن التوافق على إسم واحد تخوض به السباق الى السرايا، باعتراف رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع، بينما كان بمقدورها انتهاز الفرصة المؤاتية لاقتناص اول إنجاز سياسي لها عقب الانتخابات، وفرض مرشح لرئاسة الحكومة، عبر الاستفادة من التباينات التي ظهرت داخل صفوف الطرف الثاني حول تسمية ميقاتي وتحديداً بين «التيار الوطني الحر» و«حزب الله».
عوضاً عن ذلك، افترق العشاق – الألداء وانفخت الدف من جديد، مع تضارب مصالح «القوات اللبنانية» و«الحزب التقدمي الاشتراكي» و«الكتائب» و«التغييريين» والمستقلين، الأمر الذي سهّل «مأمورية» ائتلاف 8 آذار – «التيار الوطني الحر»، وخفّف الحرج عن النائب جبران باسيل الذي كان سيصبح في موقف صعب حيال حليفه «حزب الله»، لو انّ «القوات» سمّت نواف سلام، معززة فرصة فوزه، وأصرّ هو على الاستمرار في رفض خيار ميقاتي.
بهذا المعنى، فإنّ موقف جعجع خدم باسيل وسمح له بأن يبقى منسجماً مع موقفه المبدئي ويتمسّك بالامتناع عن تسمية ميقاتي، من دون أن يهدّد عملياً فوزه بالتكليف ويشوش على حسابات الحزب، علماً انّ إحدى شخصيات فريق 8 آذار اعتبرت انّه من غرائب المعادلات اللبنانية «المتحورة» ان يصبح ميقاتي تحديداً المرشح الصريح لهذا الفريق.
ولكن، هل من احتمال واقعي بأن يتكرّر سيناريو انتخاب رئيس المجلس ونائبه وتكليف رئيس الحكومة عند خوض استحقاق الانتخابات الرئاسية؟
يلفت المطلعون الى انّ رقم الـ 65 صوتاً الذي تكرّر حتى الآن اكثر من مرة خلال الاستحقاقات الأخيرة، سيكون الـ«كود» الذي من شأنه فتح أبواب القصر الجمهوري أمام الرئيس الجديد، مشيرين الى انّ مَن بمقدوره امتلاكه في ظل هذا المجلس المبعثر هو «أبو زيد خالو».
أما التحدّي الحقيقي المرتقب، فيكمن في تأمين النصاب القانوني لجلسة انتخاب رئيس الجمهورية، وبالتالي يبدو انّ المعركة الحقيقية هي تلك التي ستدور حول النصاب لا الأصوات.
وهنا، يلفت هؤلاء، الى انّه إذا حصل تفاهم سياسي مسبق بين فرنجية وباسيل يغدو النصاب مضموناً، وكذلك فوز الأول بالرئاسة، أي انّ هذا التفاهم هو الممر الآمن والأقصر لزعيم تيار «المردة» إلى قصر بعبدا، وحصوله لا يمكن أن يتمّ الّا بتدخّل السيد حسن نصرالله شخصياً في التوقيت المناسب، خصوصاً انّ الحزب سيتصرف، وفق رأي البعض، على قاعدة انّه لا يجوز التفريط باسم فرنجية في حال وُجدت إمكانية موضوعية لانتخابه.
ويعتبر المتحمسون لانتخاب فرنجية، انّ الوصول إلى اتفاق بينه وبين باسيل ليس مستحيلاً وإن كان صعباً. ويضيف هؤلاء: إذا كان «التيار الحر» قد أنجز في مرحلة من المراحل تفاهم معراب مع «القوات اللبنانية» على رغم التاريخ الدموي بين ميشال عون وسمير جعجع، وإذا كان فرنجية قد أنجز مصالحة وجدانية مع جعجع على رغم مأساة مجزرة إهدن الشهيرة، فمن الأسهل صنع اتفاق بين فرنجية وباسيل اللذين لم يفرّقهما الدم في أي يوم.
ويشدّد المتحمسون لفرنجية، على أنّه يحظى بمقبولية عامة داخلياً وخارجياً تعطيه لغاية الآن الأرجحية على غيره. ملاحظين انّه لا يوجد «فيتو» قاطع عليه من أحد وحتى من خصومه، بعدما اختار منذ عام 2016 التموضع المرن الذي سمح له بالانفتاح على كل المكونات، من دون أن يتخلّى عن ثوابته.