تدل كل التحركات والتطورات المتصلة بالاستحقاق الرئاسي الى انّ مشهده الآن هو كالآتي: هناك تقاطع بين «الثنائي الشيعي» وبين المجتمع الغربي المتمثّل بالفرنسيين الذين يعملون بالتنسيق مع الولايات المتحدة الاميركية على وصول رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية الى سدة الرئاسة لأنه لا يشكل اي تحدٍ للمجتمع الدولي، لا بل يذهب البعض منهم الى اعتبار انّ المرحلة تفترض الحوار ولا تفترض التحدي، وتفترض ايضا التوازن السياسي في الداخل اللبناني. وبالتالي، فإن فرنجية يكاد يكون الشخصية السياسية المارونية الوحيدة التي تجسد في أدائها هذا الامر.
ويقول مطلعون على الاتصالات والمشاورات الجارية داخليا وخارجيا في شأن الاستحقاق الرئاسي ان الولايات المتحدة الاميركية وفرنسا تحرصان الحرص التام على إشراك المملكة العربية السعودية في عملية التوافق على رئيس الجمهورية اللبنانية العتيد، نظراً لما للمملكة من تأثير مباشر على الساحة الداخلية في لبنان، شأنها شأن «حزب الله» الذي ثبت للجميع انه لا يمكن حصول توافق من دونه وفق المعادلة التي باتت ثنائية وهي ان يكون رئيس الجمهورية من نَفَس فريق 8 آذار في مقابل ان يكون رئيس الحكومة ليس بعيداً عن فكر فريق 14 آذار، وهذه المعادلة لم تعد بعيدة عن مقاربة المملكة العربية السعودية للاستحقاق الرئاسي في لبنان، وهذا ما هو ثمرة النقاش الفرنسي المباشر مع الرياض.
ويعتقد المطّلعون انّ هذه «المعادلة الثنائية» قد حققت تقدماً نوعياً ضمن كواليس النقاشات الرئاسية، خصوصاً بين مربّع فرنسا ـ الولايات المتحدة الاميركية ـ السعودية ـ «حزب الله»، وان هذا التقدم لا بد له من ان يأخذ مداه في الداخل اللبناني من اجل إنضاجه بعدما فرز المجلس النيابي نفسه، وبعدما صعدت بعض المرجعيات المسيحية الى الشجرة وباتت في حاجة الى من ينزلها عنها، لا سيما منها «التيار الوطني الحر» في شقّه المُندفع مع رئيسه النائب جبران باسيل، وحزب «القوات اللبنانية» الذي باتت الادبيات السياسية لرئيسه الدكتور سمير جعجع اكثر ليونة. وقد تجلّت هذه الليونة باستعمال عبارة «الرئيس المنقذ» للمرة الاولى، وكذلك بدأ يظهر التأييد لقائد الجيش العماد جوزف عون والتخلّي الصريح عن ترشيح النائب ميشال معوض.
على انّ هذا الجَو الآخِذ في النضوج سيتعرض لموجة من التشويش قوامها ضغط داخلي على الولايات المتحدة الاميركية وفرنسا والسعودية لإعلان ترشيح قائد الجيش، بحيث ترتفع نسبة التأييد له بين الكتل النيابية الى حدود نصف اعضاء مجلس النواب، وذلك عبر إحراج القوى السنية والقوى التغييرية التي تجنبت الاقتراع لمعوّض.
لكنّ هذا السيناريو لن يكتب له النجاح وسيصطدم بالممانعة الفرنسية الضالعة في خفايا الداخل اللبناني، والتي تعتبر هذا السيناريو بمثابة انتحار سياسي وذهاب مباشر الى الفراغ القاتل الذي يذهب بالبلاد الى الفوضى الامنية الممنوعة بقرار دولي، أضف الى ذلك انّ فرنسا تتفهّم حقيقة دور «حزب الله» الايجابي في استخراج الحلول، وما ترسيم الحدود البحرية سوى دليل قاطع الى هذا الامر.
وازاء هذا الواقع تبقى الاضواء مسلطة على ما سيقوم به كل من حزب «القوات اللبنانية» و«التيار الوطني الحر» اذا ما تقدمت التسوية الدولية في اتجاه سليمان فرنجية، وثمة من يعتبر انّ إقدامهما على خَلق جو مسيحي رافض يُحرج كافة القوى المسيحية المتمثّلة في المجلس النيابي ويمنعها من مواكبة التسوية، ولكن هذا الرفض لن تقف عنده القوى الخارجية كما حصل عام 1990، لأنّ هذا المناخ السلبي تكمن في مَطاويه روح إلغائية تضرب مستقبل لبنان وتشلّ الحالة المسيحية عن المشاركة في القرار السياسي الوطني، لأن خلفية هذا الموقف مبنية على حسابات شخصية وليس على معطيات موضوعية. فالاتفاق الذي حصل بين «التيار الوطني الحر» و»القوات اللبنانية» عام 2016 أثبتَ فشله الذريع، كما ان اختلافهما أحدثَ ضرراً هائلاً وتصدعاً كبيراً في البنية الوطنية والمسيحية في آن معاً.
كما انّ التسوية التي نتحدث عنها والآخذة في النضوج قد أخذت الهواجس المسيحية في الاعتبار عندما اختارت شخصية مسيحية تاريخية صاحبة حَيثيّة مسيحية ووطنية كبيرة، لأنّ المعيار هو عدم إسقاط رئيس على المسيحيين وليس المرور بالكتل المسيحية الكبيرة، كيف لا وان الاستحقاق الرئاسي هو استحقاق وطني بالدرجة الاولى، وسليمان فرنجية هو أكثر إقناعاً وطنياً من البقية. فإذا أجريت مقارنة بين الاقطاب المسيحية والشخصيات المرشحة لرئاسة الجمهورية والتي تطرح من هنا او هناك، فإنها تُظهر ان فرنجية هو الوحيد الذي يحوز على التأييد الاسلامي بشقّيه السني والشيعي مَشفوعاً بعدم ممانعة درزية ضمنية إزاءه. وفي هذه الحال يكون فرنجية قد جسّد بشخصه مقررات لقاء بكركي عام 2014 الذي انعقد برعاية البطريرك مار بشارة بطرس الراعي ودعا الى انتخاب رئيس من بين الاقطاب الاربعة الحاضرين (الرئيس امين الجميل، سليمان فرنجية، ميشال عون، سمير جعجع) ومقبول وطنياً في آن، أي ان يعكس هذا الرئيس الوجدان المسيحي ويكون مقبولا لدى بقية اللبنانيين.
يبقى، في رأي المطلعين أنفسهم، ان تَتفعّل المحادثات بين «التيار الوطني الحر» و«حزب الله» الذي لم يتعوّد في الاستحقاقات الكبرى ان تكون لديه «خطة B» والحريص على حماية «تفاهم مار مخايل»، وذلك بغية إقناع باسيل بأنّ الذهاب الى العاصمة القطرية الدوحة والسعي الى رفع العقوبات الاميركية عنه وكسب الوقت من اجل إثبات ترشيحه ووضع الجميع امام معادلة الذهاب الى رئيس غير فرنجية يشترك هو بالدرجة الاولى في تسميته، لن يجدي نفعاً لأنّ وصول فرنجية الى سدة رئاسة الجمهورية يشكّل، بالاضافة الى التوازن الوطني وحماية اتفاق الطائف وطمأنة المقاومة، مساعدة له في استعادة توازنه المفقود على الساحة المسيحية في مواجهة الآخرين الذين يتحكمون بالخطاب المسيطر على الرأي العام المسيحي والجهوزية التنظيمية لذلك، وما نتائج الانتخابات الطالبية الاخيرة سوى دليل على جنوح الغالبية المسيحية الى الفريق الآخر.
وفي هذا المضمار لا يجب ان ننسى أنّ اي مبادرة لجعجع تجاه فرنجية، حيث يحرص جعجع على التنويه بمزاياه الشخصية والتعبير عن الاحترام له، من شأنها إحراج باسيل الذي يطمئن جعجع حتى الساعة بطريقة متعمّدة الى انه لن يؤيد ترشيح فرنجية. فما الذي يمنع جعجع من القفز فوق هذه الطمأنة المصطنعة ورَد الصاع لباسيل الذي تنكّر لـ«تفاهم معراب» بحسب رأي «القوات اللبنانية»؟ ولو اقترعَ بورقة بيضاء مكتفياً بتأمين نصاب الجلسة خصوصاً اذا لاحت له مؤشرات خارجية، وسعودية بالتحديد، حول عدم ممانعتها انتخاب فرنجية، خاصة انه راجَت في الآونة الاخيرة معلومات كثيرة عن انّ هناك سعياً لحصد 65 صوتاً لفرنجية من دون حاجة الى اصوات كتلة باسيل، وهذا ما يمكن الجميع أن يَبنوا عليه ليشكّل عنصر جَذب لعدد من النواب والكتل المتردّدة في التصويت لفرنجية.