ظاهر الاستحقاق الرئاسي في الأيام الأخيرة يعاكس باطنه. المعلن والموحى به أن البلاد كأنّها قريبة من انتخاب الرئيس، فيما الكامن المضمر أنه أضحى أبعد ممّا كان منذ ما قبل أكثر من أسبوع. كلتا وجهتَي النظر مصيبتان وخائبتان في الوقت نفسه
بعدما جهر الثنائي الشيعي بمرشحه النائب السابق سليمان فرنجية، لم يعد ينقص القواعد الطبيعية والمنطقية لانتخابات الرئاسة سوى تحديد موعد جلسة الانتخاب كي يتنافس فيها المرشحان المعروفان، فرنجية ونائب زغرتا ميشال معوض المسمّى من فريق المعارضة. فجأة، صار انتخاب الرئيس يشبه الماضي البعيد ويناقض الماضي القريب. في الماضي البعيد، في أكثر من استحقاق، ذهب النواب الى انتخاب رئيس من بين مرشحَين متنافسَين على الأقل كما في أعوام 1958 و1964 و1970 و1976 و1989 (الأولى). في الماضي القريب، منذ ما بعد اتفاق الطائف، انتخاب الرئيس مقصور على مرشح واحد معدوم المنافسة كأعوام 1989 (الثانية) و1998 و2008 و2016 من غير إغفال تمديدين للولاية على التوالي عامَي 1995 و2004 أوصدا الأبواب دونهما. لم تعرف مرة حقبة ما بعد الاتفاق انتخاب رئيس في مدلوله الطبيعي والدستوري غير المشوب بعيوب شتّى، إما بدافع إنهاء الحرب بأيّ ثمن كما مع الرئيس إلياس الهراوي، أو بتعديل الدستور بلا منافس كالرئيس إميل لحود، أو لإطفاء نار سنيّة – شيعية كالرئيس ميشال سليمان، أو بتسوية ملتبسة كالرئيس ميشال عون. لم ينافس أحد هؤلاء، ولذا كان انتخابهم غير طبيعي لأن الفائز عُرف سلفاً قبل الوصول الى الجلسة وبلا اقتراع سرّي كما تشترط المادة 49 من الدستور.
في المسار الذي بات أخيراً يسلكه الاستحقاق الحالي، في ظاهره على الأقل، أنها المرة الأولى – قياساً بما عبر – يكون طبيعياً. ربما أكثر من طبيعي ومنطقي لأنه وصل الى محطة يُظنُّ أنها الأخيرة – كما في الماضي – بوجود مرشحَين رسميَّين معلنَين، الى مرشحين سواهما غير معلنين، ما يفسّر أن البلاد أمام فرصة خاتمة الشغور.
في الجلسات الإحدى عشرة المنصرمة، أهون السبل ذهاب الكتل النيابية الى البرلمان لإظهار انصياعها للنصّ الدستوري بانتخاب الرئيس. غير الطبيعي في الجلسات تلك أنّ لدى فريق مرشحاً معلناً هو ميشال معوّض، ولدى فريق آخر مرشحاً شبحاً بلون الشبح هو الورقة البيضاء، فضلاً عن سخرية نواب من الاستحقاق نفسه بالاقتراع لمسمّيات ونعوت. في الجلسات تلك، توافر الثلثان للدورة الأولى من الاقتراع، ثم راح يطير النصاب بعد انتهائها. في المسار الجديد، انقلبت الأدوار رأساً على عقب: الذين كانوا يتمسّكون بانعقاد الجلسات والمكوث في القاعة باتوا يلوّحون منذ الآن بامتناعهم عن الحضور وتعطيلها، والذين عكفوا على إعطاب نصاب الثلثين في الجلسات نفسها هم الآن مستعجلون الذهاب الى التصويت. إذاً، الحصيلة نفسها: لا جلسة قريبة لانتخاب الرئيس بعدما انتهى الاشتباك بين الطرفين الى استخدام السلاح الأبيض في المواجهة، وهو نصاب ثلثَي البرلمان كي يتمكّن من الانعقاد: يريده الثنائي الشيعي وحلفاؤه لانتخاب فرنجية، ويريده الفريق الآخر لانتخاب سواه.
يكمن مغزى المرحلة الجديدة من الاستحقاق، المفترض أن ترشيح الثنائي الشيعي فرنجية سهّله، في بضع ملاحظات:
أولاها، تحلّل تدريجي لما رافق مرحلة الجلسات الإحدى عشرة: لا أوراق بيض بعد الآن، مرشح الثنائي الشيعي نهائي يتقدم به كي يُنتخب، لا كي يفاوض أو يساوم عليه، تضعضع المؤيدين لمعوّض الذين انتقلوا بدورهم من الإفراط في الكلام عن تأييده والتمسك به الى إعلانهم رفض المرشح المقابل ومقاطعتهم جلسة الانتخاب إذا بَانَ أنه قد يفوز، انتقال وليد جنبلاط – أكثر الشغوفين بما بعد الخطة (ألف) الى كل الذي يليها – من تأييد معوض الى طرح لائحة من ثلاثة أسماء الى الوقوف الأسبوع الماضي بكليّته وراء رئيس المجلس نبيه برّي في ما أدلى به، مع أن الزعيم الدرزي ضدّ انتخاب فرنجية. أما «التغييريون» فلا أحد يعلم أين انتهوا؟
ثانيتها، ما يسمعه زوار رئيس المجلس صاحب الصلاحية الدستورية أنه سيعلن في اليوم التالي موعد جلسة انتخاب الرئيس إذا أبلغته الكتل أنها جاهزة للذهاب إليها بمرشحها: تنافس مرشحَين أو أكثر، سواء تقاربت الحظوظ أو تكافأت أو تباعدت. يقول برّي أيضاً إنه فتح باب الترشيحات وباتت خيارات الجميع معلنة على الطاولة لا تحتها. بيد أنه يعرف، وسبق أن اعترف، كما الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، أن لا أحد يملك أن يفرض على الآخر مرشحه، وليس في حوزته أيٌّ من الأكثريّتين المرجّحتين، سواء الثلثين للحضور والفوز في الدورة الأولى أو النصف زائداً واحداً في الدورة الثانية وما يليها. بذلك أوحى برّي، كما من بعده نصر الله، أن الثنائي الشيعي وحلفاءه يحتاجون الى الأفرقاء الآخرين لاكتمال عقد الجلسة، من غير أن يكونوا قد ضمنوا سلفاً انتخاب فرنجية الذي يدور المؤيدون له حتى اللحظة حول 55 نائباً على الأكثر.
ثالثتها، يتعامل الثنائي الشيعي مع ترشيح فرنجية على أنه خياره الوحيد والأخير، ولذا يقاربه على نحو مطابق لما فعل حزب الله، من دون برّي، في شغور 2014 – 2016 مع ترشيح الرئيس ميشال عون على أنه نهائي كي يلتحق الآخرون به. ذلك ما حصل بالفعل برميةٍ من غير رامٍ ذهب ضحيّتها فرنجية بالذات، عندما انضمّ رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، ثم من بعده الرئيس سعد الحريري الى تأييد الرئيس السابق ميشال عون ثم انتخابه. في جلسة 31 تشرين الأول 2016، فاز بأصوات الغالبية النيابية في حضور الكتل كلها بلا استثناء، المصوّتة له والمعارضة، مع ذلك عُدَّ عون في نهاية المطاف مرشح الحزب بالذات. الأمثولة الأكثر اعتباراً سياسياً لدى حزب الله حينذاك أنه لم يتخلَّ عن حليف رشّحه. في الاستحقاق الحالي، يفتح الثنائي الشيعي سباقاً مماثلاً مع الوقت طال أو قصر من طراز مختلف كي يفضي الى النتيجة نفسها. باب التفاوض مع الأفرقاء الآخرين في الداخل والخارج مفتوح ليس على ترشيح فرنجية وانتخابه، وإنما على السنوات الست المقبلة في العهد الجديد.