ليس المطلوب بالنسبة إلى غالبية اللبنانيين أن تتعاطى الطبقة السياسية كلها أو بعضها مع تشكيل الحكومة على قاعدة التسابق في ما بينها عن تنافس الحقائب الوزارية الدسمة أو السيادية التي تعتمد على الأوزان والأحكام بقدر ما المطلوب من هذه الطبقة أن تتعاطى مع تأليف الحكومة بمفهوم وطني بكل معاييره سواء لجهة اعتبارات المصلحة الوطنية أول جهة احترام الدستور وآلياته.
ولو اعتمد هؤلاء الذين يتحكمون باسم الطوائف، والطائفية بمصير الدولة، ويسيِّرونها لما استغرق تشكيل الحكومة كل هذا الوقت، ولكان اللبنانيون بأكثريتهم الساحقة والذين تفاءلوا باتفاق هؤلاء القادة مختارين أو مجبرين على انتخاب رئيس للجمهورية هو العماد ميشال عون، وتبؤ الآمال العراض، يعيشون هذه الأيام ما يسمى أزمة تشكيل الحكومة، بقدر ما كانوا يشهدون انطلاقة العهد الجديد بحكومة وطنية جامعة على حدّ تعبير جهابذة السياسة في بلدنا رسمت في بيانها الوزاري خريطة طريق أو خطة شاملة ومبرمجة لانعاش الاقتصاد، ووقف هجرة العقول إلى الخارج وتوفير فرص العمل أمام الشباب اللبناني وإعادة العلاقات الطبيعية للبنان مع جميع الدول العربية، ولا سيما الخليجية منها التي يشكّل رعاياها الذين يستهويهم هذا البلد الشريان الحقيقي لتحريك العجلة السياحية، وفتح أبواب الاستثمارات في لبنان التي تشكّل بدورها قوة اقتصادية يعتدُّ بها.
لكنه، مع الأسف الشديد لا يوجد تقريباً بين هؤلاء القيادات السياسية من ينظر إلى موضوع تشكيل الحكومة من زاوية وطنية، بل ينظر إليها من زاوية تأمين مصالحه السياسية والانتخابية من جهة، ومصالح جيبته وكيفية توفير مزيد من الأموال والاستثمارات من خلال تسلمه الوزارات الدسمة وهي معروفة ولا حاجة إلى إعادة التذكير بها، وهذا الواقع أدى إلى تأخير تشكيل الحكومة من الآن، وجعل الرئيس المكلف حائراً بين تلبية طلبات هؤلاء أو تطبيق الدستور والنية التي أناطت به وبرئيس الجمهورية عملية تأليف الحكومة وإصدار مراسيم تشكيلها لتذهب بعد ذلك إلى مجلس النواب للحصول منه على الثقة التي تمكنها من إدارة الحكم بما يعنيه من شؤون الدولة ومصالح العباد من ضمن المصلحة الوطنية العامة.
الحجة الغالبة تقول بأن لبنان بلد توافقي ولا يمكنه بالتالي ان يستمر ويعيش على صيغة الغالب والمغلوب، أو على النظرية التي تقول بأن الأكثرية النيابية تحكم والأقلية تعارض وبالتالي لا بدّ من التوصّل الى هذه الصيغة التوافقية في تشكيل الحكومة، وهذا ما كان يحصل في السابق، وما هو مطروح في هذه الأيام بالنسبة إلى حكومة العهد الأولى وإذا كان الرئيس المكلف امتنع حتى الآن عن ممارسة صلاحياته التي ينص عليها الدستور فقد تعمَّد ذلك عن سابق تصور وتصميم كي لا يقع في محظور الغالب والمغلوب أو في الاخلال بالصيغة التوافقية ما من شأنه أن يزيد من عمق الأزمة السياسية ويحولها إلى أزمة قد تصبح وجودية مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمصير الجمهورية كلها.
قد تكون هذا التبرير مقبولاً لو أن القوى السياسية مستعدة للتعاون في ما بينها نتاج حكومة وطنية جامعة، وذلك بالتخلي عن المصلحة الشخصية والمكاسب الذاتية من أجل المصلحة الوطنية ومعاييرها التي يفترض ان تعلو على كل المعايير الأخرى، لكن ما يجري في شأن تشكيل الحكومة، وما نشاهده من مبادرات وما نسمعه من شروط وتركيز على حقائب وزارية يجعل كل مواطن يحب بلده يأسف على هذه الحالة التي وصلت إليها الدولة بكل مؤسساتها ويأسف أكثر على هذا الانحطاط في الممارسة السياسية ومفاهيمها الوطنية.