ما كشفه السفير الفرنسي في لبنان إيمانويل بون بعد اجتماعه يوم الإثنين الماضي مع وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل عن أنّ «زيارة وزير الخارجية الفرنسي جان مارك إيرولت الى لبنان التي تأتي استكمالاً لزيارة الرئيس فرانسوا هولاند، ستحصل في 27 أيار الجاري، ويجري خلالها مشاورات مع جميع الأحزاب والسلطات اللبنانية بهدف التحضير لمؤتمر دولي يُساعد على حلّ الأزمة السياسية والدستورية»، كاد يُفجّر قنبلة بالمعنى الإيجابي، أو يُشكّل بداية حلّ لأزمة الملف الرئاسي التي أتمّت السنتين، لو لم يتراجع بون عمّا أعلنه، مشيراً الى أنّه «حصل سوء فهم لما قاله».
لكنّه أيضاً عندما سئل عن موعد هذا المؤتمر وآليته، قال حرفياً: «نحن نريد العمل من أجل تحريك المجتمع الدولي، من ثمّ سنرى أي شكل وصيغة سنعتمدها لعقد هذا المؤتمر. صحيح أنّ هذا الأمر (أي الاستحقاق الرئاسي) من مهام اللبنانيين أنفسهم، ولكن على المجتمع الدولي القيام بكلّ ما بوسعه للحفاظ على السلام والأمن والاستقرار في هذا البلد».
فما الذي حصل بين ليلة وضحاها، ما دفع بالسفير الفرنسي الى التنصّل من تصريحه كاملاً، علماً أنّه لم يذكر خلاله مجموعة الدعم الدولية، ولا أي شيء من هذا القبيل، كما أنّه أجاب عن تفاصيل هذا المؤتمر فأوضح ما ذكرناه آنفاً. فهل زلّ لسان السفير بون فطُلب منه التراجع لأنّ التسوية لم تنضج بعد، أم لأنّ ما كشف عنه يُعتبر تدخّلاً علنياً في الشؤون الداخلية اللبنانية، لا سيما إذا ما جرى الإعلان عن عقد المؤتمر قبل موافقة الأطراف اللبنانية؟
الأمر الواضح، على ما أشارت أوساط ديبلوماسية عليمة، أنّه لم يحصل أي «سوء فهم» لا سيما أنّ تصريح السفير بون سُجّل بالصوت والصورة، ولا مجال لتأويلات وتفسيرات لكلام تُرجم من اللغة الفرنسية بشكل دقيق. إذاً هي زلّة لسان حصلت من قبله، أراد تصحيحها لسبب أو لتنبيه ما، فتذرّع بأنّه لم يتمّ فهم ما أراد إيصاله، وأنّه يتكلّم عن اجتماع مجموعة الدعم الدولية، وليس عن مؤتمر دولي خاص بحلّ الأزمة الرئاسية في لبنان. علماً أنّ بلاده فرنسا تسعى منذ فترة طويلة الى عقد مؤتمر تأسيسي ما، يكون بمثابة المؤتمرات التي سبق أن عقدتها من أجل حلّ قضية لبنانية ما مثل «باريس 1» و«باريس 2» و«باريس 3» وسواها، وهي تريد فعلياً إيجاد حلّ ما للشغور الرئاسي، انطلاقاً من تمسّكها بهذا البلد الذي لعبت طويلاً فيه دور الأم الحنون.
ولكن على ما يبدو فإنّ المشاورات الدولية لم تصل الى خواتيمها ليتمّ الإعلان عن عقد هذا المؤتمر، كما أنّ ما يتمّ طبخه لم ينضج بعد، خصوصاً أنّ السفير الفرنسي أجاب لدى سؤاله عمّا إذا كان إيرولت سيلتقي خلال زيارته المرتقبة ممثّلين عن «حزب الله»، بأنّه «سنرى ما سيكون عليه برنامج الزيارة»، لكنه شدّد على أنّه «لدينا علاقات مع «حزب الله»، كما تعلمون، ونحن نتحدّث معه على مستويات عدّة، فعلى سبيل المثال، عندما زار رئيس مجلس الشيوخ الفرنسي بيروت في أيلول الماضي، التقى بوفد من الحزب، كما التقيهم أنا أيضاً». ما يعني أنّ المحادثات مع الحزب مستمرّة، وكاد إيرولت يلتقي ممثلين عنه خلال زيارته الى بيروت لو نجحت التسوية الدولية.
وإذ يبقى هذا الإجتماع معلّقاً الى حين مجيء وزير الخارجية الفرنسي، أكّد رئيس الحكومة تمّام سلام من جهته، ما حاول السفير بون التراجع عنه، لا سيما عندما قال في تصريح صحفي أخير إنّ «الفرنسيين والألمان وجهات دولية أخرى تدخّلت لدى إيران من أجل الحصول على شيء من الليونة بملف الإستحقاق الرئاسي، وبالفعل شعرنا أنّ هناك في مكان ما رغبة إيرانية بالتسهيل، لكنّ الأمور تعقّدت مجدداً بسبب مواجهة إقليمية جديدة وكان من أثرها تراجع الوضع إلى الوراء».
كما شدّد سلام على أنّ الأمور مرتبطة بالوضع الإقليمي وبعضها ببعض سوريا، والعراق، واليمن وغيرها، وبالأوراق التي تلعب هنا أو هناك، وما يُعطى في المقابل. كما أنّ كثيرين يرون أنه يتعين انتظار الانتخابات الأميركية».
من هنا، تقول الأوساط نفسها، أنّ زيارة إيرولت لن تبحث في الملف الرئاسي إذاً، ولن تُقدّم أي مبادرة فرنسية لانتخاب رئيس لسنتين أو غير ذلك، ما دامت الأمور على الصعيد الدولي تعقّدت من جديد، وجرى ربط انتخاب الرئيس اللبناني بكلّ ما يجري في المنطقة، وصولاً الى الإنتخابات الأميركية. فالحلّ يجب أن يُبنى مع جميع الأطراف، وإذا كان بعضها لا يزال غير مستعدّ لتقديم التنازلات، أو أنّه ينتظر ما سيحصل على صعيد كلّ دول العالم قبل أن يُوافق على ذهاب نوّابه الى المجلس لانتخاب رئيس البلاد.
صحيح أنّ أي دولة خارجية لا يُمكنها أن تصوّت في المجلس النيابي بدلاً من النوّاب أنفسهم، غير أنّها قادرة أن تضغط عليهم، خصوصاً عندما تنضج التسوية، لكي يؤدّوا واجبهم الدستوري. غير أنّ اللقاءات الباريسية التي حصلت حتى الآن، لا سيما لقاء البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي والرئيس هولاند، واجتماع رئيس «تيّار المستقبل» النائب سعد الحريري والرئيس الفرنسي أيضاً، لم يرشح عنها أنّ الحلّ آتٍ قريباً بالنسبة للشغور الرئاسي أو لتشكيل حكومة وطنية أو انتخاب مجلس نيابي جديد.
لدى فرنسا النيّة الجديّة، على ما تضيف الأوساط، لإنهاء حالة الشغور الرئاسي في لبنان، لكنّها لا تجد من يلاقيها في منتصف الطريق، لا الولايات المتحدة الأميركية المنشغلة بالإنتخابات الرئاسية، ولا إيران من المنهمكة بالحرب السورية وما يجري من أزمات في دول المنطقة من العراق الى اليمن وسواهما. ولهذا فلا يسعها شيئاً بمفردها في الفترة الراهنة سوى الدعم والتشجيع وانتظار نتائج أزمات المنطقة.
ولهذا فإنّ زيارة إيرولت لن تحمل الإقتراحات أو المبادرات بخصوص الملف الرئاسي، إنّما ستنحصر بإطلاع وزير الخارجية الفرنسي على مواقف جميع الأطراف اللبنانية ممّا يجري في لبنان والمنطقة، لا سيما بعد إجراء الإنتخابات البلدية والإختيارية بنجاح. كما سيُشجع الجيش والأجهزة الأمنية على استكمال عملية مكافحة الإرهاب الذي هو أكثر ما يُقلق بلاده في الفترة الراهنة، خصوصاً وأنّه ضربها مرتين، ولا تزال مهدّدة من قبل التنظيمات الإرهابية.
في الوقت نفسه، إنّ فرنسا لن تيأس من المحاولة، على ما أكّدت، مع جميع الأطراف، وخصوصاً مع «حزب الله» الذي يتهمه البعض بعرقلة الإنتخاب الرئاسي، لأنّها على علم بمدى تأثيره على الحياة السياسية في لبنان، ولهذا لم تُوافق على إدراجه في وقت سابق، على لائحة الإرهاب الأوروبية، واكتفت بإدراج الجناح العسكري فيه. فما يهمّها هو أن يحترم لبنان عمل مؤسساته والمهل الدستورية المتعلّقة بالإستحقاقات، لأنّه البلد الوحيد في المنطقة الذي لا يزال محسوباً عليها.
كذلك فإنّ بعض الدول الأخرى التي تتدخّل بالشؤون اللبنانية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية لا تريد أن ترى حالياً رئيساً جديداً للبنان يُخالف مصالحها فيه وفي المنطقة، وهي تنتظر ما ستؤول اليه المفاوضات بشأن الأزمة السورية لترى من الذي سيسيطر عليها ويُمسك زمام الأمور فيها. لهذا لن تستعجل حلفاءها لانتخاب الرئيس قبل تبيان نتائج الأزمة السورية ومدى انعكاسها على لبنان.
من هنا، فإنّ انتخاب الرئيس اللبناني لن يحصل خلال الأشهر القليلة المقبلة ما لم تتظهّر الصورة النهائية للأزمة في سوريا، وتنتهي الولايات المتحدة من انتخاباتها الرئاسية، عندها فقط سيصبح من الأسهل البحث في الموضوع الرئاسي، وإنهاء المشاورات على ضوء المرحلة الجديدة المقبلة على منطقة الشرق الأوسط.