Site icon IMLebanon

وبعد صغار المودعين… ما مصير الطبقة الوسطى؟

 

بعد سلسلة تعاميم المصرف المركزي أسئلة كثيرة في انتظار صدور الآليّات التطبيقية بين أولوية حماية صغار المودعين وضرورة الحفاظ على الطبقة الوسطى المحرّكة الأساسية للاقتصاد الوطني ومصدر كل استقرار اجتماعي فيه، كون الطبقة الضعيفة مُرهقة تحت خط الفقر والطبقة الغنية حوّلت حركتها نحو الخارج مالياً واستهلاكياً واستثمارياً… ومع كثافة الاجراءات الساعية الى طمأنة ما تمّ تصنيفه بـ»صغار المودعين»، لا بد من جملة تساؤلات بشأنهم كما بشأن «حماية صمّام الأمان للاقتصاد»، من خلال حماية الطبقة الوسطى فيه التي تجهد لإعادة تكوين ذاتها بعد كل ضربة تضخم وتدهور لسعر الصرف نسف قدراتها الشرائية… فكيف تبدو صورة التصنيفات بين صغار المودعين ومتوسّطي الحال؟ وأيّ اسئلة حول سبل حمايتهم؟

انطلق النقاش بعد صدور تعميم مصرف لبنان كخطوة أوّليّة تم وضعها في إطار حماية «صغار المودعين» التي تقلّ مجموع دائعهم في مصرف معيّن عن خمسة ملايين ليرة لبنانية او ثلاثة آلاف دولار أميركي، يسمح لهم بسحبها بالليرة بمبلغ يحفظ قيمتها الشرائية بعد تدهور سعر صرف الليرة مؤخراً إزاء الدولار، مع اعتماد مبلغ بالليرة يوازي قيمتها بالدولار على أسعار سعر صرفه في السوق، لتكون النتيجة مضاعفة حجمها تقريباً عمّا هو عليه اليوم إن كانت اليوم بالدولار أو بالليرة في المصرف… بعض الأسئلة يمكن استنتاج أجوبة لها وبعضها الآخر سينتظر آليّات تطبيق التعميم واستكماله بجملة تعاميم موعودة لتشمل أوسع شريحة ممكنة تطرح علامة استفهام فاصلة بين ما يعتبر ضرورة حماية «صغار المودعين» الى ما هو «حماية الاقتصاد» والحفاظ على «الطبقة الوسطى» فيه…

 

لا شك أنّ البحث عن تحديد سقف الودائع الصغرى والمتوسّطة بدأ يتزايد منذ بداية الحديث عن احتمال اللجوء الى «هيركات»/اقتطاع على الدين العام للدولة، من شأنه أن ينعكس على المصارف والتي في حال Bail in صعوبة امتصاص خسائره من خلال رساميلها الخاصة ممكن أن يدفعها الى «بايل ان» تعرض فيه على الزبائن فوق خط «صغار المودعين» المشاركة بزيادة رساميلها والتحوّل الى مساهمين.

 

وقد ارتقبَ كثيرون أن يكون الحد الفاصل 200 الف دولار بعد جملة أحاديث إعلامية تناولت هذا المبلغ بشكل مباشر أو غير مباشر… كما اعتمد آخرون مقاربة جمعية المصارف ومصرف لبنان لرفع السقف من 5 ملايين الى 75 مليون ليرة في مؤسسة ضمان الودائع ليعتبرونه السقف الفاصل الأدنى الممكن…

 

وإذ بالحسابات تختلط من جديد مع تعميم المصرف المركزي حول الاجراءات الاستثنائية للسحوبات النقدية من الحسابات الصغيرة لدى المصارف أعاد خلط الأوراق مع اسهدافه حصراً ذوي الودائع التي لا تتخطى 3 آلاف دولار أو 5 ملايين ليرة، ولو انه اشيع أنّ ثمة خطوات مماثلة ستشمل المشهد للمودعين في المرحلة المقبلة، علماً انّ الفئة التي تستفيد من هذا التعميم تشكّل 61,8 % من الحسابات في المصارف، وعددها يقارب 1.715283 حساب (مليون وسبعمئة وخمسة عشر ألفاً ومئتان وثلاثة وثمانون حساباً) بمجموع يوازي 795 مليون دولار أميركي. مما يحمل المواطنين على طرح جملة أسئلة:

 

أولاً: وفق أي معايير تم اعتماد تصنيف «صغار المودعين» فقط بذوي الودائع التي لا تتخطى 5 ملايين ليرة لبنانية أو 3 آلاف دولار أميركي فقط غير؟

 

ثانياً: هل هذا التعميم يستهدف أصحاب الودائع التي لا تتخطى السقف المذكور في مصرف واحد أو مجموع حساباتها في جميع المصارف العاملة في لبنان؟ وماذا يحصل في حال كان للمودع عدة حسابات في عدة مصارف لا يتخطى كلّ منها الـ3 آلاف دولار أو الـ5 ملايين ليرة؟ الأرجح أن يكون الجواب هو اعتماد السقف في المصرف الواحد، ولكن التأكيد ينتظر التوضيح في آلية التطبيق.

 

ثالثاً: هل الاجراء يشمل جميع المودعين من لبنانيين وغير لبنانيين؟ الأرجح أنّ الجواب نعم، كَون المصارف لا تميّز بين المودعين المقيمين وفق جنسياتهم، بل التصنيف يميّز فقط بين المقيمين وغير المقيمين، ومن المستبعد أن يكون غير المقيمين معنيين بهذه السقوف من الودائع الصغرى.

 

رابعاً: هل أنّ الحسابات المعنية ينبغي إقفالها عند سحب المبلغ الكامل وفق الآلية المقترحة؟ الأرجح أنّ الجواب نعم، وبالتالي هذا يعني أنّ التعميم لا يشمل الحسابات الجارية لتوطين الرواتب كون الأرجح ألّا يبادر أصحابها الى إغلاقها للاستفادة من الاقتراح ثم فتح غيرها في الظروف الراهنة…

 

خامساً: الى أيّ مدى يمكن لِضَخ المزيد من العملة اللبنانية أن يزيد من نسبة التضخّم ومن تآكل المزيد من القدرة الشرائية لذوي الدخل المحدود؟ الجواب مرتبط بالكمية المرتقبة من السيولة الجيدة بالليرة التي يمكن أن يتطلّبها هذا الاقتراح ومدى تجاوب صغار المودعين للاستفادة منه والحجم النهائي الذي سيتطلّبه ذلك من ضَخ المزيد من العملة الوطنية..

 

سادساً: الى أيّ مدى يمكن أن يتجه المستفيدون من هذا التعميم الى الصرّافين لاستبدال ما سحبوه بالليرة بالدولار الأميركي؟ أي ضغط ممكن أن يتسبّب ذلك في سوق القطع وخطر ارتفاع سعر الدولار أكثر؟ الجواب غير محسوم كون سعر شراء الدولار سيكون أعلى من سعر المبيع الذي حصلوا على النقود على أساسه، مما سيجعلهم يتحمّلون خسارة في شراء الدولار… الا اذا أرادوا احتمالها للحفاظ على القيمة الشرائية للنقود المسحوبة ازاء التضخّم ومخاطر تدهور اضافي لسعر الصرف…

 

سابعاً: هل أنّ هذا الاجراء منفرد أو هو يندرج ضمن سياسة اقتصادية-اجتماعية إصلاحية شاملة من شأنها أن تتبلور بجملة اجراءات لاحقة تعني بقية الشرائح من المودعين؟

 

ثامناً: كيف يمكن قراءه هذه الاجراءات ضمن رؤيا شاملة للقطاع المصرفي وإمكانية استعادته لثقة المودعين ليستعيد هو دوره الطبيعي في الحياة الاقتصادية وفي استقطاب الودائع الضرورية لتحريك نشاط مختلف بقية القطاعات والحفاظ خاصة على صمام الأمان لكل اقتصاد وهو «الطبقة الوسطى»؟

 

علماً أن مفهوم صغار المودعين الذي اعتمدته مؤسسة ضمان الودائع، 75 مليون ل.ل. أو ما يعادلها بالدولار الأميركي (50 ألف دولار) عملاً بالتشريع الجديد الذي أدرجَه المجلس النيابي مؤخّراً في قانون الموازنة لتغطّي هذه الضمانة شريحة واسعة من المودعين بحدود 2,5 مليون مودع ونسبتها تفوق 86 % من عدد الزبائن. وعليه، يُقارب حجم الودائع المضمونة بالقانون 13 مليار دولار، ما يشكّل نسبة أقلّ بقليل من 8 % من حجم الودائع كما كانت في منتصف شهر تشرين الأول 2019، علماً أنّ ودائع هذه الشريحة من المودعين تتوزّع وفق معطيات ودراسات جمعية المصارف مناصفةً بين الليرة والدولار (50 % – 50 %). خلافاً للتوزيع العام للودائع: 27 % بالليرة مقابل 73 % بالدولار.

 

من هنا تكون الحماية الفعلية لصغار المودعين ومتوسطي الحال من ذوي الدخل المحدود بالليرة اللبنانية فعلاً لا قولاً من خلال تأمين استقرار سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأميركي وضبط تفلّت التضخّم بالارتفاع الهائل للأسعار بما يتآكل قدرتها الشرائية!

 

ووفق أرقام جمعية المصارف نهاية شهر شباط 2020 يتبيّن أنّ أكثر من 90 % من المودعين لا تتخطى ودائعهم 100 ألف دولار ويحوزون على ما دون 14 % من مجموع الودائع، أي 22,5 مليار دولار، بينما تبلغ حصة 98 % من المودعين حتى 500 ألف دولار وما دون 40 % من الودائع، أي 61,6 مليار دولار.

 

وهنا صلب البحث في «حماية الاقتصاد اللبناني» عبر الحفاظ على مدّخرات الشرائح المنتمية إلى الطبقة الوسطى المحرّك الرئيسي للاقتصاد الوطني، التي جهدت في إعادة تكوين ذاتها والمساهمة في إطلاق عجلة الاقتصاد بعد الضربة القاسية التي تلقّتها في الثمانينات مع التضخّم الهائل الي تخطى معدله عام 1987 حدود 487 %، ما أفقَد الثقة بالعملة الوطنية وأشعَل موجة الدولرة والهروب من الليرة حتى تخطّى سعر صرف الدولار 2850 ليرة عام 1992 قبل أن يبدأ ضَبطه بسياسة نقدية متشددة… وطبعاً في فترة لم يكن فيها لبنان في هذه الحال من المديونية غير المستدامة والتخلّف عن الدفع وافتقاد السيطرة على مجرى الخروج الصافي للدولار بتراكم عجز ميزان المدفوعات منذ العام 2011 حتى اليوم!

 

وهنا أيضاً تكون حماية ذوي الدخل المحدود عبر سياسة إصلاحية شاملة تحمل ضبط عجز المالية العامة وكرة الثلج المتنامية للدين العام التي أفقدت ثقة البلدان المانحة فيه للمرة الأولى في تاريخه!

 

كذلك تكون حماية صغار المودعين ومتوسطي الحال من ذوي الدخل المحدود بضبط موازٍ للعجز الخارجي المتمثّل بشكل أساسي في عجز ميزان المدفوعات الجارية. وكان ينتج الأخير في لبنان عن العجز التجاري، أي عن الفارق بين الصادرات والواردات، فيتم تعويضه بفائض ميزان الرساميل الذي لم يعد يتمكّن من هذه المهمة مع تراجع حركة اجتذاب الرساميل والاستثمار والسياحة الى البلاد بشكل متزايد منذ العام 2011، علماً أنّ هذه الأنشطة تحتاج أولاً مناخاً استثمارياً وسياحياً مؤاتياً، وجَوّ ثقة قبل أي إجراءات تقنية بين معدلات فوائد وتسهيلات تنفيذية وغيرها من الحوافز…

 

على أمل أن تكون الاجراءات المتّخذة تباعاً خطوات أولى في رحلة الألف ميل للحفاظ على حقوق المودعين، جميع المودعين، وهم الأساس في قطاع مصرفي لطالما شكّل العمود الفقري للاقتصاد اللبناني ولا بد له أن يستعيد دوره في هذا الإطار حماية للاقتصاد ككل بشكل مُستدام، وليس إنقاذاً مؤقتاً للحد الأدنى من الحقوق فيه. فهل بدأنا نَخطّ خارطة طريق إنقاذية شاملة؟ ووفق أي أفق زمني؟ وأي نظرة مستقبلية يمكن ترقّبها؟