جورج شاهين
بعد أيام على بدء عملية «درع الفرات» في الأراضي السورية، توالت الانتقادات الدولية، فبَعد الاعتراض الروسي الذي فاجأ المراقبين على أكثر من مستوى، تلوح في الأفق بوادر اعتراض أميركي، ترجمته القيادة الأميركية الوسطى بتدخّلها لترتيب وقفٍ للنار مع الأكراد، ما يوحي بأنّ تركيا خاضَت في جرابلس حرباً صغيرة في إطار الحرب الكبرى. فكيف يمكن قراءة هذه المعادلة؟
كان واضحاً لدى المراجع الديبلوماسية والعسكرية التي تتعاطى بالملف السوري أنّ التوغل التركي في الأراضي السورية لن يكون أمراً تكتيكياً عابراً، ولن يستسيغه قادة قطبَي الحرب في موسكو وواشنطن.
ذلك أنّ حجز أنقرة موقعاً لها على الخريطة السورية لن يكون مريحاً للطرفين، فلديها أكثر من ورقة من أوراق القوّة التي يمكن أن تلعبها للتشويش على الطرفين اللذين ارتكبا خطأ مميتاً بإعطاء الإذن لها في لحظة تخَلٍّ بعملية محدودة في الأراضي السورية لأسباب متناقضة ومختلفة تماماً.
وتعترف مراجع ديبلوماسية أنّ الرئيس التركي رجب الطيب اردوغان أتقن لعبتَه بتوجّهِه إلى موسكو وطهران بعد أن أدار ظهره للإدارة الأميركية في لحظة الخروج من المواجهة الداخلية عقبَ الانقلاب الفاشل، وعرفَ كيف يلعب على التناقضات التي بلغَت الذروة عقبَ الحصار الروسي على حلب وخروج موسكو على تفاهماتها التكتية مع واشنطن.
وبذلك، تقول القراءة الديبلوماسية للخطوة التركية إنّ أردوغان استفاد من ضوء أخضر روسي للعملية عندما تزامنَت مع سلسلة من الاتفاقات الاقتصادية والنفطية التي عَقدها ونظيرَه الروسي فيما أرضى الأميركيين المنشغلين بالانتخابات الرئاسية، باستعداده للوقوف في وجه المد الروسي في سوريا نيابةً عنهم وعن حلفائه في دوَل الحلف الدولي.
وأمام هذه المعادلة الدقيقة التي حكمت الوضعَ في شمال سوريا لأيام معدودة ضربَت أنقرة ضربتها العسكرية التي كانت تستعدّ لها منذ فترة طويلة بهدف منع قيام الكيان الكردي على حدودها والذي قد يمتدّ إلى ما يقارب 630 كيلومتراً حدودياً تمتدّ مِن الحسكة والقامشلي شرقاً إلى عفرين غرباً لو سمح لـ»وحدات حماية الشعب الكردية»، وحلفائهم من «قوات سوريا الديموقراطية» باستكمال عمليتهم العسكرية للسيطرة على المنطقة الواقعة غرب مجرى نهر الفرات من منبج الى عفرين عبر جرابلس.
وكشفَت التقارير الواردة من أنقرة والتي استندت المراجع الديبلوماسية إليها، أنّ القيادة التركية كانت قد أنهت استعداداتها للعملية منذ حزيران الماضي وشكّلت لها قوّة خاصة في المنطقة الغربية الممتدة من عفرين إلى إعزاز من «الجيش السوري الحر» تضمّ 1850 عسكرياً، في انتظار ساعة الصفر لوقفِ المد الكردي المعارض لها غرباً قبل أن يسيطر الأكراد على منبج والحسكة وتوسيع رقعة الدويلة الكردية إلى ما يزيد على 20 ألف كيلومتر مربّع.
وتقول هذه التقارير إنّ القيادة التركية استشرفَت المخاطر الكردية المحيطة بها على حدودها الجنوبية منذ أن وضَع الأكراد يدهم على مدينة منبج في تمّوز الماضي والتي شكّلت في رأيهم خرقاً للخطوط الحمر المرسومة بمجرّد تجاوز مجرى نهر الفرات إلى الضفة الغربية منه، وهو ما لم تعِره روسيا كما الولايات المتحدة الأميركية أيَّ أهمية في المرحلة التي سبَقت عملية «درع الفرات» رغم معرفتهما بالحساسية التركية المفرطة تجاه قيام نواة الدويلة الكردية في تلك المنطقة، فكيف بامتدادها على طول الحدود وصولاً إلى عفرين ومحيطها.
وعلى هذه الخلفيات، تضيف المراجع الديبلوماسية أنّ العملية التركية جاءت في توقيت دقيق جداً ففاجأت الروس والأميركيين معاً بقوّتها الصاعقة وبسرعة التنفيذ. فهي عملية كاملة الأوصاف العسكرية واللوجستية لم تستغرق أكثرَ مِن عشر ساعات كانت فيها قوات «داعش» تخلي مواقعَها في المدينة ومحيطها أمام وحدات «الجيش السوري الحر» وقوّة الدعم التركية المدرّعة بنحوٍ لا سابق له.
وهي بذلك وضَعت القوّتين الروسية والأميركية على المحكّ وفي وضعٍ حرج أمام المجتمع الدولي. فهما اللتان تدّعيان قتالَ «داعش» منذ أشهر وسنوات عدّة من دون تحرير أيّ منطقة منها، وهي بذلك ألقت الضوء ساطعاً على انشغالهما، ومعهما دول الحلف الدولي، عن «داعش» بأعداء لكلّ منهم نتيجة خلافهم الذي لم يُحَلّ يوماً حول لائحة موحّدة بالمنظمات الإرهابية التي تنتشر على الأراضي السورية وينبغي مواجهتها.
لكن ما كان مفاجئاً أنّ العملية التركية لم تكتفِ بجرابلس وشريطها الحدودي بما يقارب 90 كيلومتراً حدودياً، فهي ورغم طلبِها من واشنطن سحبَ القوات الكردية إلى شرق الفرات وضرورة إخلاء منبج، أكملت عمليتها في اتّجاه المنطقة الكردية غرب نهر الفرات واصطدمَت بـ«قوات سوريا الديموقراطية» التي احتفظَت بمواقعها فيها والقرى المحيطة بها، وهو ما قاد إلى المواجهة معها فشكّلَ ذلك أوّلَ صدام بين الأتراك و»الجيش السوري الحر» و»القوّة المدلّلة» لدى واشنطن.
وعند هذه الواقعة، تقول المراجع الديبلوماسية، صدرَت التحذيرات الأميركية الى القوات التركية منعاً لتجاوزِ الخطوط الحمر الأميركية في صدامها مع «وحدات حماية الشعب» الكردية، و«قوات سوريا الديموقراطية» تزامناً مع استمرار البحث عن مخرج لا يؤدي الى تدهور العلاقات التركية ـ الأميركية التي يجري ترميمها نحو الأسوأ، وهو ما يفسّر تدخّل القيادة الأميركية الوسطى في الشرق الأوسط لترتيب وقفِ النار في منبج ريثما يُصار الى توفير المخرج الذي يرضي حليفين لواشنطن في آن على رغم صعوبة المهمة.
وعليه، تعتقد المراجع عينها أنّ الملاحظات الأميركية لن ترقى في هذه المرحلة الى حدّ الخلاف مع الإدارة التركية، فواشنطن التي ستدخل بعد أسابيع قليلة مدارَ الانتخابات الرئاسية سترى في التوغّل التركي وجودَ من يقف أو يواجه الدورَ الروسي على بقعةٍ محدّدة في سوريا في هذه المرحلة بالذات، ولن تفرّط بالتفاهمات الجديدة التي أرسَتها زيارة نائب الرئيس الأميركي جون بايدن الأخيرة لأنقرة.
وتتوقّف المراجع الديبلوماسية عند هذه الاعتبارات مجتمعةً، لتقودها إلى اعتبار أنّ ما حصَل في جرابلس «حرب تركيّة صغيرة» في إطار «الحرب الكبرى». ومن يَدري، لربّما قدّمت نموذجاً يُحتذى لو أرادت موسكو وواشنطن القضاءَ بالسرعة القصوى على «داعش» في سوريا.
فها هي عملية «درع الفرات» «قدّمت نموذجاً لعلمية عسكرية جدّية يُحتذى بها، فكيف إذا تمّ إحياء الفكرة التي طرِحت لتشكيل «جيش سنّي» لمواجهة «داعش»، ومن يتذكّر مناورات «درع الشمال» السعودية يدرك أنّ الحل موجود.