أجواء التوتر التي عصفت بالجلسة الاخيرة لمجلس الوزراء بفعل السجالات الحادة بين بعض اعضائه حول قضية استُحضرت فجأة هي قضية جهاز امن الدولة، والتي فرضت على رئيس الحكومة تمام سلام رفع الجلسة تفاديا لمزيد من الاحتقان الذي ارتفع منسوبه الى مراحل قصوى واستخدام البعض تعبيرات ومصطلحات غير مألوفة وظهور اصطفافات من طبيعة طائفية، دفعت بمراقبين الى اشهار التساؤل عما اذا كان بامكان الاطراف والقوى المشاركة في الحكومة ان تحافظ بعد على “تفاهم الجنتلمان” المعقود بينها على ادارة المرحلة وضبط التناقضات ضمن مؤسسات الحوار الثلاث التي يرعى رئيس مجلس النواب نبيه بري اثنتين منها اي الحوار الثنائي بين “تيار المستقبل” و”حزب الله” والحوار الوطني الشامل، فيما اعطى لـ “التيار الازرق” حق ادارة المؤسسة الثالثة اي حكومة “المصلحة الوطنية” وفق المصطلح الذي اطلقه عليها رئيسها تمام سلام.
لم يعد خافيا ان هذه المؤسسات ارتؤي ان تكون لها ثلاث مهمات اساسية:
– ادارة الاوضاع بالحد الادنى الممكن في ظل الشغور الرئاسي المستمر منذ نحو عامين والمرشح للتمديد الى اجل غير مسمى.
– ضبط التناقضات وربط النزاعات بين الاطراف وخصوصا بين “تيار المستقبل” و”حزب الله”، واستطرادا بين المحورين الداخليين اللذين يشكلان فيها قطب الرحى.
– الحفاظ قدر الامكان على ديمومة عمل مؤسسات الدولة والحيلولة دون انهيارها الى درك الشلل.
لكن التطورات المتسارعة والضاغطة منذ ثمانية اشهر توشك ان تغير الصورة وتطيح التفاهم. وليس جديدا ان هذه التطورات بدأت تتكشف واحدة تلو اخرى منذ العجز الفاضح والواضح عن ايجاد حلول عاجلة وسريعة لمشكلة ازالة النفايات المتراكمة وصولا اخيرا وليس آخرا الى الانفجار الكبير لقضايا الفساد المستشري منذ زمن على نحو غير مسبوق في قوى الامن الداخلي وادخال نحو 400 ضابط ورتيب في نطاق التحقيقات القضائية السريعة، معطوفا على ملابسات قضية شبكة الانترنت غير الشرعية والممدودة برا وبحرا وجوا أمام أعين كل الاجهزة المعنية ، وهي القضية التي يتناولها بعض السياسيين وفي مقدمهم النائب وليد جنبلاط بما يوحي ان في المؤسسة العسكرية التي بقيت فوق الشبهات من هو مشتبه فيه وضالع في الفساد، الى قضية جهاز امن الدولة وما خفي منها وما ظهر. يضاف الى هذا الغيض ان الحوار في “مؤسستي الحوار” الاخريين لم يعد مَعْقَد الرهان والامال ومحل انتظار حلول وانضاج تسويات، بل صار عبارة عن منتدى يحرص المتحلقون حول طاولتيه على الاكتفاء بالصورة وببيان روتيني مقتضب ، حتى ان المشاركين فيه فقدوا الرغبة في تطوير مضمون البيان ولو لغويا.
حيال ذلك فان السؤال المطروح بالحاح هو: لماذا هذا التداعي والعجز والانزياح عن مرحلة ضبط الخلافات الى مرحلة تفجُر العصبيات والتناقضات على هذا النحو الذي تجلى اكثر ما يكون ظهر الخميس المنصرم في السرايا الحكومية؟
ثمة في رأى المعنيين اسباب وعوامل عدة لهذا التراجع في مقدمها:
– غياب الرموز التي من شأنها ان تبادر الى اجتراح الحلول واطلاق الافكار التي قد تفضي الى تحريك الراكد وبث دوائر من الحيوية السياسية . وثمة من يعزو هذا الغياب الى عدم قدرة هذه الرموز على الانتقال المطلق الى موقع البحث عن حلول خالصة لوجه الله ولمصلحة البلاد والعباد . ولم يعد سرا ان آخر هذه المبادرات اطلقها كما هو معلوم الرئيس بري عبر دعوته الى طاولة الحوار الوطني التي دخلت في مرحلة اليأس، وبعدها كانت للرئيس سعد الحريري مبادرة تسمية النائب سليمان فرنجية مرشحا للرئاسة الاولى وهي المبادرة التي تعثرت في بدايتها.
وفيما لم يستطع الرئيس بري الصمود طويلا في موقع المبادر بعد تسعير اشتباكه السياسي مع الفريق العوني حول اكثر من قضية ، فان الرئيس الحريري بدا وكأنه تراجع عن مبادرته الرامية الى نسج تفاهم مع قوى 8 اذار عبر تسمية مرشح للرئاسة من لدنها من خلال اصراره على اعتبار ان المواجهة مع “حزب الله” مستمرة كواحد من مقومات حضوره او كمفردة لازمة من المفردات الضرورية لشد العصب السياسي في مرحلة تحتاج الى شعار يكون في طياته جسرا لترحيل ازمات او التغطية عليها.
– رغبة بعض الاطراف والقوى في ولوج عملية تصفية الحساب بمفعول رجعي مع الخصم عبر السعي الى تكريس معادلات او عبر قمع تطلعات الطرف الاخر، وهذا ينطبق اكثر ما يكون على بعض القوى المسيحية وعلى النائب جنبلاط الذي قرر فتح اشتباك مع المدير العام لـ”اوجيرو” .
وفي جانب من جوانب المشهد التصعيدي ، وفي ظل تكرّس معادلة غياب القدرة على انتاج تسويات كبرى يبدو الاطراف جميعهم محكومين بالذهاب الى تفاصيل وقضايا ضيقة تحت عناوين شتى، وهو ما تنطبق عليه تسمية “الحروب الصغيرة” (التعبير الذي اطلقه المخرج السينمائي المبدع الراحل مارون بغدادي على احد افلامه في ثمانينات القرن الماضي).
– يضاف الى ذلك اشتداد صراع المحاور الاقليمية وبلوغها مراحل الحسم كما تبدو احيانا، ورهان بعض اقطابها على محطات ساخنة يمكن استخدامها او توظيفها كأوراق قوة في المراحل اللاحقة ، وهو ما ينعكس على الساحة اللبنانية مزيدا من الارجاء والتأجيل لقضايا خلافية كبرى في مقدمها ملء الشغور الرئاسي، وانتظارا لنتائج الضغوط المتصاعدة والمتنوعة على “حزب الله” بهدف إحكام الطوق حوله.
ماذا بعد؟
ثمة من يرى انه على رغم تصاعد التوترات والاشتباكات السياسية الداخلية وانتظار ان تتوالى فصولا ، فانه ليس من مصلحة اي مكون من مكونات المشهد السياسي الاطاحة بالحكومة وبمؤسستي الحوار الاخريين لان افق البدائل يكاد يكون موصدا في الوقت الحاضر، ولكن ليس خافيا ان هناك من يريد خلط الاوراق من خلال هذه الحروب الصغيرة التي يبدو انها ستكون سمة المرحلة والى اجل غير مسمى.